يشهد هذا العام ذهاب الملايين لصناديق الاقتراع، فى وقت نرى فيه صعود التيار اليمينى الشعبوى أو المتطرف فى أنحاء أوروبا. فى ضوء ذلك، نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب مارك جونز، يؤكد فيه أننا أمام عام مفصلى، قد تسقط فيه أغلب الديمقراطيات. دعا الكاتب إلى استمرار المظاهرات فى ألمانيا لدعم الديمقراطية والتنوع، متمنيا انتشارها فى أنحاء القارة، لنقل الشعور بإلحاح هذه القضية إلى مستويات السلطة العليا... نعرض من المقال ما يلى:فى الثلاثين من يناير عام 1933، جرى تعيين أدولف هتلر مستشارا لألمانيا. من منظور أنصاره، كانوا يعتقدون أن ألمانيا تحتاج إلى القوة التجديدية التى يتمتع بها رجل قوى متسلط بعد أربعة عشر عاما من «نظام» فايمار الديمقراطى الليبرالى.
اليوم، لا يـمارى سوى قلة من الناس فى أن وصول هتلر كان نقطة تحول فى تاريخ العالم، أو بداية العملية السياسية التى انتهت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية وواقعة المحرقة. لكن هتلر لم «يستول على السلطة»، كما ادعى النازيون فى وقت لاحق. بل إنه «رفع إلى السلطة» بيد مجموعة صغيرة من الرجال النافذين.
كان أحد هؤلاء الرجال فرانز فون بابن، الذى شغل منصب المستشار فى 1932. كان بابن يتصور أن هتلر والحزب النازى من الممكن استخدامهما لتعزيز أجندة مـحافـظة. على نحو مماثل، أراد الرئيس الألمانى، المشير السابق بول فون هيندنبورج، استخدام هتلر لاستعادة النظام الـمـلـكى.
أخـضـع التيار الليبرالى والديمقراطى الاجتماعى الذى عارض هتلر بالعنف أو الهروب. طمأنوا أنفسهم إلى أنه بقدر ما ساءت الأمور، فإن حكم هتلر سينهار فى نهاية المطاف. ومن المؤكد أن الاقتتال النازى الداخلى سيضع نهاية للحكومة الجديدة.
بعيدا عن الليبرالية والاشتراكية، افترض قسم أعرض من المجتمع الألمانى أن هيندنبورج، الذى وعد بأن يكون رئيسا لكل الألمان، سوف يبقى هتلر مقيدا، فى حين توقع آخرون أن يفعل الجيش ذلك. لقد انخدع الجميع بقدرة هتلر على الظهور بمظهر محترم فى السنوات الأخيرة من جمهورية فايمار.
فى غضون 100 يوم من تولى هتلر منصب المستشار أصبح اندفاع النازيين الجامح إلى السلطة شديد الوضوح. وبحلول نهاية صيف 1933، كان المجتمع الألمانى أخـضـع تماما. ولم يعد من الوارد وجود أى أحزاب سياسية مستقلة، أو نقابات عمالية، أو منظمات ثقافية. لكن احتفظت الكنائس المسيحية بدرجة ما من الاستقلال.
بعد مرور عام، فى صيف 1934، أمر هتلر بقتل منافسيه داخل الحزب، وبعد وفاة هيندنبورج فى الثانى من أغسطس، أعلن نفسه الفوهرر الألمانى. واكتمل حـكمه الديكتاتورى.
• • •
لا تزال هذه الفترة من التاريخ وثيقة الصلة بيومنا هذا. فسوف يـدلى مئات الملايين من الناس بأصواتهم فى انتخابات محورية هذا العام، وعلى الرغم من علامات التحذير، فإن قلة من الخبراء على استعداد للتصريح بالتالى علنا: «قد يكون عام 2024 هو عام 1933 الجديد».
ولكم أن تتخيلوا العالم بعد عام من الآن، حيث تتسبب المعلومات المضللة فى إسقاط أغلبيات ديمقراطية فى مختلف أنحاء العالم. ويـنهى الرئيس دونالد ترامب دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا. ولا يظل الناتو يشكل قيدا يحول دون تمكين فلاديمير بوتين من تحقيق أحلامه ببناء إمبراطورية روسية جديدة عبر مختلف أرجاء أوروبا الشرقية. وحيث تعمل كتلة حرجة من أحزاب اليمين المتطرف فى البرلمان الأوروبى على منع أى استجابة أوروبية موحدة. وتـترك بولندا، وإستونيا، وليتوانيا، ولاتفيا تتدبر أمورها بمفردها. ومع توسع الحرب فى غزة لتتحول إلى صراع إقليمى، يغتنم بوتين الفرصة لشن هجوم خاطف آخر، مصحوب بصواريخ بعيدة المدى. ووسط الفوضى تقرر الصين الاستيلاء على تايوان.
الواقع أن آفاق 2024 قاتمة للغاية، حتى أن كثرا يرفضون مجرد التأمل فيها. وكما توقع التيار الليبرالى فى عام 1933 أن ينتهى هتلر بسرعة إلى الفشل، فإن التفكير والتخطيط استنادا إلى التمنيات اليوم يشوش قدرتنا على الحكم. إننا نسير نياما نحو نظام دولى جديد.
تعد الفترة من 1929 إلى 1933 «سنوات مفصلية»، عندما استـبـدلت المثالية فى العلاقات الدولية بما يسمى «انتصار الظلام». ولكن فى أواخر عام 1926، بدا الأمر وكأن التيار الليبرالى يقترب من النصر: فقد تقاسم وزير الخارجية الفرنسى أريستيد برياند ونظيره الألمانى جوستاف ستريسمان جائزة نوبل للسلام لجهودهما فى تحقيق المصالحة الفرنسية الألمانية، وانضمت ألمانيا إلى عصبة الأمم. وبدا الأمر وكأن القومية المتطرفة باتت معزولة فى إيطاليا تحت حكم موسولينى.
فى مواجهة الأزمات العالمية اليوم، لا يوجد مجال للتفاؤل. فمن المحتمل أن نكون فى عام مفصلى آخر. وإذا تحرك التيار الليبرالى الآن، فلا يزال بوسعه أن يفوز.
فى إشارة واعدة، خرج مئات الآلاف من الألمان أخيرا إلى الشوارع لدعم الديمقراطية والتنوع، وإدانة اليمين المتطرف. لكن المظاهرات فى بلد واحد لا تكفى. بل يجب أن ينضم إلى التيار الليبرالى الألمانى غيره من التيارات الليبرالية فى مختلف أنحاء القارة. الواقع أن مظاهرة على مستوى القارة من شأنها أن تبعث برسالة قوية. يجب أن يمتد الشعور بإلحاح هذه القضية إلى مستويات عليا، وخاصة بين قادة الأعمال مثل جيمى ديمون، رئيس بنك جيه بى مورجان تشيس التنفيذى، والذى فى محاولة لحماية رهاناته بدأ بالفعل يتقرب من ترامب.
قبل وقت ليس ببعيد، اجتمع زعماء أوروبا وبذلوا كل ما فى وسعهم لإنقاذ اليورو، لأنهم أدركوا أن فشل العملة الموحدة من شأنه أن يؤدى إلى هدم الاتحاد الأوروبى ذاته. يتعين على الأوروبيين الآن أن يطالبوا بذات القدر من الإصرار فى مواجهة التهديدات التى يحملها لنا عامنا هذا. يحتاج الاتحاد الأوروبى الآن إلى خطة فى حال عالم خال من حلف شمال الأطلسى! يحتاج إلى أدوات جديدة للتعامل مع قادة البلدان الأعضاء مثل رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان، ورئيس الوزراء السلوفاكى روبرت فيكو، وكل منهما يفضل تقبيل خاتم بوتين على الدفاع عن الديمقراطية. من غير المقبول ببساطة أن يظل أوربان يمارس حق النقض على عملية صنع القرار فى الاتحاد الأوروبى.
النص الأصلى: