الصيام والقرآن

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 4 أبريل 2022 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

بتوبة نصوح، وقلب وَجل سليم، يقبل العبد على اغتنام المنح الربانية والنفحات الرمضانية، التى بلغه إياها مولاه. وحرى بمن ينشد سعادة الدارين، أن يتوسل صنوف الطاعات، ويلتمس دروب العبادات، ابتغاء مرضاة خالقه، وطمعا فى عطائه العميم. وفى سبيل ذلك، يتوخى مرتجى رحمة ربه، صيام رمضان، إيمانا واحتسابا. كما يعكف على تلاوة القرآن الكريم، حق تلاوته، آناء الليل وأطراف النهار. غير غافل عن العمل بما فيه، أو مدبر عن الاستقامة على أوامره ونواهيه.
فى مواضع قرآنية شتى، قرن المولى، تبارك وتعالى، شهر رمضان المعظم بالقرآن الكريم، نزولا، وتلاوة، وتطبيقا. حيث يقول، عز من قائل، فى الآية 185 من سورة البقرة: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان». وفى الآية الثالثة من سورة الدخان:«إِنَا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ». وفى مستهل سورة القدر:«إِنَا أَنْزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ». وعن فضل القرآن العظيم، وما يحمل فى طياته من رحمات وبركات للمؤمنين، يخاطب ربنا خاتم أنبيائه ورسله، صلوات ربى وتسليماته عليه، فى الآية 52 من سورة الشورى، بالقول: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورا نَهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا». ويقول المولى، جل وعلا، فى الآية التاسعة من سورة الإسراء: «إِنَ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَتِى هِى أَقْوَمُ وَيُبَشِرُ الْمُؤْمِنِينَ الَذِينَ يَعْمَلُونَ الصَالِحَاتِ أَنَ لَهُمْ أَجْرا كَبِيرا». ثم يقول، سبحانه وتعالى، فى الآية الثانية بعد الثمانين من السورة نفسها: «وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ». وفى الآية التاسعة والعشرين من سورة (ص): «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَبَرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ».
أما فى السنة النبوية المطهرة، فيقول نبينا الكريم، فيما رواه عبدالله بن مسعود: «مَنْ قَرَأَ حَرْفا مِنْ كِتَابِ اللَهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ. وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. أما إنى لَا أَقُولُ: الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْف، وَلَامٌ حَرْف، وَمِيمٌ حَرْفٌ». وعن عثمان بن عفان رضى الله عنه، عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». وعن عبدالله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَقُولُ الصِيَامُ: أَيْ رَبِ، مَنَعْتُهُ الطَعَامَ وَالشَهَوَاتِ بِالنَهَارِ، فَشَفِعْنِى فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَوْمَ بِاللَيْلِ، فَشَفِعْنِى فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَعَانِ». وقد حسَن الشيخُ الألبانى، رحمه الله، هذا الحديث، فى مؤلفه الجامع «تمام المنة فى التعليق على فقه السنة».  وعن أبى هريرة، رضى الله عنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: «الشفعاء خمسة: القرآن، ونبيكم، والرحم، والأمانة، وأهل بيت نبيكم». وعَنْ  أَبِى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَهِ صَلَى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ: «تَعَلَمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَهُ شَافِعٌ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَتَعَلَمُوا الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ . تَعَلَمُوا الزَهْرَاوَيْنِ، فَإِنَهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ غَيَايَتَان، أَوْ كَأَنَهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍ تُحَاجَانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا، وَتَعَلَمُوا الْبَقَرَةَ فَإِنَ تَعَلُمَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكُهَا حَسْرَةٌ: وَلَا يُطِيقُهَا الْبَطَلَةُ». أى السَحَرَةَ.
هنالك، يقول الإمام الشافعى، رحمه الله: إن العبادات معللة بمصالح العباد. فعندما حبانا الله بالقرآن، وفرض علينا الصيام، رهن لنا فيهما الخير، والتقوى، والصلاح، والفوز المبين فى الدنيا والآخرة. فعلى سبيل المثال، تعنى الشفاعة، التوسط للغير فى جلب المنفعة، أو دفع المضرة، «نهاية الزمان» يوم الحساب. ورغم أنها من أمر الخالق وحده، إلا أنه بوافر فضله، وواسع رحمته، قد يمن بشىء منها على من يرضى عنه ويأذن له من عباده الأخيار والصالحين. وجاء فى تفسير ذلك الحديث النبوى الشريف، أنَ شهر رمضان المبارك يجمع بين فضيلتين: أولاهما، الصِيام، الذى هو حصن للمسلم من الوقوع فى المعاصى والذنوب، ووقاية له من مطاوعة هوى النفس وشيطانها. ففى حديث البخارى، عن أبى هريرة، رضى الله عنه، أنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الصِيَامُ جُنَةٌ، فَلاَ يَرْفثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِى صَائمٌ ــ مَرَتَيْنِ ــ وَالَذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَائمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ ــ تَعَالَى ــ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِى، الصِيَامُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا؛». فبالصيام، تصفو روح المؤمن، وتسمو نفسه، ويصح جسده، ويقوى بدنه. وثانيتهما، المداومة على ترتيل القرآن فى الشهر، الذى اختصه الله تعالى بنزوله، حتى نال من الفضائل والمكارم ما لم يتسنَ لسواه من الشهور. ويأتى الحديث النبوى مبشرا المؤمن الصالح بقبول شفاعة الصيام والقرآن له، استنادا إلى وعد النبى الصادق المصدوق.
لقد كان نزول القرآن فى شهر رمضان، إشعارا إلهيا لرقى منزلة فريضة الصِيام، وسمو مكانة الشهر الفضيل. ولقد جسدت السيرة النبوية العطرة ذلك التلازم الرائع، وقدمت لنا أسوة حسنة فى اغتنام المنحة الرمضانية العظيمة. حيث كان لنبينا الحبيب وِرد ثابت من مدارسة القرآن فى كلِ ليلة من رمضان. وقد أخرج البخارى، من حديث عبدالله بن عبَاس رضى الله عنهما، أنَ «جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِى كُلِ لَيْلَةٍ فِى شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَهِ صلى الله عليه وسلم القُرْآنَ».
ليست العبرة بتلاوة القرآن فحسب، وإنما بتدبر آياته، والعمل بما تفوح به من أحكام. ففى الآية التاسعة عشر من سورة الأنعام، يقول تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ»، ما يشير إلى أن كتاب الله الكريم حجة على كل من يؤمن به. وفى هذا يقول المعصوم صلى الله عليه وسلم، فى حديث الإمام مسلم: «الْقُرْآنُ حُجَةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ». فالقارئ الذى يقرأ القرآن، ويعمل بأوامره، ويبتعد عن نواهيه، فيحل حلاله، ويحرم حرامه، ويحكم به، ويتحاكم إليه، ويرضى بحكمه، ويتدبر معانيه، يأتى القرآن مؤازرا له يوم القيامة. امتثالا لقول المولى، تجلت حكمته، فى الآية 29 من سورة (ص): «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَبَرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَرَ أُولُو الْأَلْبَاب». أما القارئ، الذى يَقرأ القرآن، ولا يهتم بفهمه وتدبره وتطبيقه، فذلكم الذى يأبى إلا أن يكون كتاب الله عليه حجة.
لطالما دأب الصحابة الكرام، على التمعن والتدبر فى كتاب الله، والعمل به، قبل حفظه. حتى أن كثيرين منهم، قد وافتهم مناياهم، قبل أن يتموا حفظه كاملا. وقال أبو عبدالرحمن السلمى: «حدثنا الذين يُقرؤوننا القرآن، أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات، حتى يعلموا ويعرفوا ما فيها من علم وعمل». وعن ابن عمر قال: «كان الفاضل من أصحاب رسول الله (ص) فى صدر هذه الأمة، لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، إلا أنهم رُزقوا العمل به». بيد أن ذلك لم يمنع بعض الصحابة من أمثال على بن أبى طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم، من الجمع بين إتمام حفظ كتاب الله، وإتقان العمل بما فيه.
أما وأننا نتأسى برسولنا الكريم، وصحابته الغُر الميامين، فلتكن تلاوتنا للقرآن، تلاوة تروٍ، وتدبر، وتأمل، لا قراءة تسارع وتسابق لأجل التفاخر بتتابع الختمات طوال الشهر المبارك. ولكم يحتاج المسلم لمواصلة الطاعات والعبادات بعد انقضاء رمضان، حتى يكون عبدا ربانيا، لا عبدا رمضانيا. ما إن يمضى الشهر الفضيل، حتى يجافى المساجد، ويهجر القرآن، ويودع الخيرات. فعن عائشة أم المؤمنين، رضى الله عنها، أنَها قالت: «سُئِلَ النَبِيُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ: أَيُ الأَعْمَالِ أَحَبُ إِلَى اللَهِ؟! فقَالَ: أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَ. وَقَالَ: اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ». أى: وطَنوا أنفسكم على ما تستطيعون فعله من الصالحات، دونما كلل، أو ملل، أو انقطاع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved