فى تفسير ما جرى للعرب بين نكبتهم الأولى ونكبتهم الثالثة
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 4 مايو 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
أستعير العنوان من المجموعة القصصية «ذكر ما جرى»، للمرحوم خالد الذكر جمال الغيطانى، والتى تساءل فيها عن الأسباب التى أدت إلى نكبة العرب الثانية فى ١٩٦٧ والتى سميت تخفيفا من فداحتها بالنكسة، فعند الحديث عن النكبة الثالثة التى فاقت فى أهوالها ما جرى فى كل من النكبتين السابقتين لا يكفى ذكر ما جرى ويجرى تحت أعين العرب والعالم كل يوم، ولكن جسامة الحدث تستلزم البحث عن أسبابه، ربما ينفع العلم بها تفادى نكبة رابعة، أو إذا كان خيالنا وإرادتنا تسمحان تصفية آثار هذه النكبة الثالثة.
طبعا قد يحلو للبعض أن يدعى أن العرب وهم يواجهون النكبة الثالثة أنهم لا يملكون أسباب مقاومتها، ولكن التأمل الموضوعى لأحوال العرب عند كل نكبة سوف يكشف بجلاء أنه إذا كان العرب لم يملكوا أدوات القوة العلمية والاقتصادية والمالية والدبلوماسية زمن النكبة الأولى وأبدوا بعض المقاومة للمشروع الصهيونى الذى قاد إلى كل هذه النكبات، فإنهم يمتلكون الكثير من هذه الأدوات وقت النكبة الثالثة، ومع ذلك تقاعسوا عن استخدامها، أو لم ير بعضهم أى حكمة فى استخدامها، على الرغم من أن فداحة نتائج النكبة الثالثة تفوق بكثير، كل ما جرى من قبل.
النكبة الثالثة تفوق فى آثارها كل ما جرى فى النكبتين السابقتين
دعونا نقارن آثار النكبات الثلاث والموارد التى استخدمها العرب فى كل منها. لقد انتهت النكبة الأولى فى 1948 بتحول المشروع الصهيونى إلى واقع على قسم من أراضى فلسطين، تمكنت الحركة الصهيونية من إقامة دولتها على مساحة من أرض فلسطين تتجاوز ما قرره لها قرار التقسيم الذى وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نوفمبر 1947، ولكن بقيت الضفة الغربية تحكمها إمارة شرق الأردن ووقعت غزة تحت الإدارة المصرية إلا أن الدول العربية المستقلة فى ذلك الوقت دخلت بخمس جيوش حربا ضد المستعمر الصهيوني، مع أن معظم هذه الدول لم يكن كامل الاستقلال بوجود جيوش أجنبية على أراضيه أو بسيطرة أجنبية على قواتها المسلحة، كان ذلك حال مصر والعراق وإمارة شرق الأردن، وكان كل من سوريا ولبنان حديثى الاستقلال ولم يتح لهما ولا للسعودية التى أرسلت قوات حاربت تحت القيادة المصرية أسلحة ولا تجارب قتالية تمكنها من الوقوف أمام القوات الصهيونية التى استفادت من تجربة خوض بعض معارك الحرب العالمية الثانية إلى جانب بريطانيا، فضلا عن أنها كانت تستعد منذ تدفق اليهود المهاجرين إلى فلسطين بعد وعد بلفور لمواجهة احتمالات المواجهة مع قوات عربية نظامية أو غير نظامية.
جاءت النكبة الثانية فى يونيو ١٩٦٧ وقد حصلت كل الشعوب العربية على استقلالها، وبذلت حكوماتها خصوصا فى مصر وسوريا والعراق والأردن وحتى فى كل من المغرب والجزائر جهودا كبرى لامتلاك جيوش حديثة وبمساعدة كل من الاتحاد السوفيتى لبعضها ومساعدة دول غربية للبعض الآخر، ولكن انتهت النكبة الثانية بسيطرة دولة المشروع الصهيونى على كل فلسطين بابتلاع الضفة الغربية وغزة، وفضلا عن ذلك باحتلال مساحات من دولتين عربيتين هما شبه جزيرة سيناء فى مصر ومرتفعات الجولان فى سوريا، وفى وقت هذه النكبة الثانية كانت بعض الدول العربية وخصوصا فى الخليج وكذلك فى شمال إفريقيا تراكم أصولا مالية بفضل تصديرها للبترول وإن لم تكن قد أكملت السيطرة عليه، مما أتاح لها أن تساهم فى دعم الصمود الاقتصادى للدول التى خرجت مهزومة من تلك الحرب بل وتمويل بعض مشترياتها من السلاح، وهو ما تكفلت به كل من السعودية والكويت بموجب قرارات القمة العربية فى الخرطوم فى أغسطس ١٩٦٧، وما قامت به الجزائر مع مصر قبل حرب ١٩٧٣.
النكبة الثالثة والتى بدأت بطوفان الأقصى فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ أدت بدولة المشروع الصهيونى إلى تحويل السيطرة على الأراضى الفلسطينية التى يفترض أن تكون هى إقليم دولة فى غزة والضفة الغربية إلى دمار شامل فى الأولى وحصر سكان الثانية فى مدن وقرى محاطة بالقوات العسكرية وبالمستوطنات المسلحة تمهيدا إذا ما قدرت دولة المشروع الصهيونى لتهجيرهم خارج فلسطين بحدودها التاريخية، وكذلك قامت بعدها بضم كل هضبة الجولان ومساحات واسعة فى جنوب دمشق وخمس مناطق تحت الاحتلال فى لبنان، وتبذل مساعى حثيثة لتقسيم سوريا ولا يكف قادتها عن إعلان أن إسرائيل الموعودة بحكم تفسيراتها للتلمود تشمل مساحات واسعة من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق وحتى المملكة العربية السعودية.
ويمكن القول إنه على عكس النكبتين السابقتين لا توجد مواجهة عربية جادة للمشروع الصهيوني. لم تتضامن حكومة عربية واحدة مع النضال المسلح للشعب الفلسطينى فى غزة أو الضفة الغربية، واكتفت كلها بالعمل الدبلوماسى سواء من خلال الجامعة العربية أو الأمم المتحدة أو منظمة التعاون الإسلامي. بل وعلى العكس مما جرى بعد النكبة الثانية من اتخاذ قرار التزمت به كل الحكومات العربية برفض التفاوض أو الصلح أو الاعتراف بالكيان الصهيوني، تقيم ست دول عربية علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وتتعدد الاتصالات العلنية أحيانا وغير العلنية فى أحيان أخرى من جانب حكومات لا تقيم صلات دبلوماسية مع إسرائيل، ويتبادل بعضها مع إسرائيل علاقات اقتصادية أو يقدم لها تسهيلات مرور عبر أجوائها وأراضيها، ولعل أفضل ما تقوم به حكومات عربية مساندة للشعب الفلسطينى هو جهود الوساطة التى تقوم بها حكومتا مصر وقطر أملا فى الوصول إلى وقف الحرب الغاشمة والإبادة الإنسانية التى تقوم بها القوات الإسرائيلية فى غزة، وهى جهود تصطدم برفض الحكومة الإسرائيلية للاستجابة لها متشجعة فى ذلك باتفاق رؤاها مع الإدارة الأمريكية التى تترك لها تقريبا الحرية الكاملة فى فعل ما تشاء.
صحيح أن النكبة العربية الثالثة تجرى وبعض الحكومات العربية لا تملك السيطرة على كل إقليمها تنازعها فيه قوى مسلحة منافسة أو مقاومة شعبية مثلما هو الحال فى سوريا والسودان وليبيا واليمن وحتى العراق، ولكن من الناحية الأخرى تملك الدول العربية الأخرى جيوشا مزودة بأحدث ما تقدمه تكنولوجيات السلاح التقليدية، كما تتمتع بأرصدة مالية هائلة تجعلها تقفز إلى صدارة الدول ذات الفوائض المالية خصوصا بالمقارنة بعدد سكانها، كما تحظى بنصيب مهم من إنتاج العالم من البترول والغاز الطبيعى تمكنها من التأثير فى الأسواق الدولية وتدعو القوى العظمى إلى خطب ودها، بل وصار بعضها يملك من المهارة الدبلوماسية ما يجعلها وسيطا مقبولا فى أخطر الصراعات المسلحة التى تعرفها السياسة العالمية فى الوقت الحاضر.
لذلك فليس من الصحيح أن العرب لا يملكون الآن من وسائل القوة ما يمكنهم من ممارسة الضغط على إسرائيل أو الولايات المتحدة بوقف علاقات بعضهم الاقتصادية والدبلوماسية مع الأولى والتوقف عن إظهار السخاء المالى البالغ مع الثانية وباستخدام لغة الصفقات التى لا يعرف الرئيس الأمريكى غيرها سواء مع حكومته أو مع مشروعات أسرته المالية ، وهو ما يثير التساؤل: كيف تجرى هذه النكبة الثالثة بكل آثارها الفادحة، والعرب نظريا فى موقف أفضل بكثير مما كانوا عليه وقت النكبتين السابقتين الأولى والثانية؟
المصالح القطرية الجديدة عقبة كأداء أمام أى تعاون عربى
سيجد البعض الجواب سهلا فى غياب نظام عربى فعال، فلو كان هذا النظام قائما لتعاون العرب فيما يحقق مصالحهم، ولذلك تكون مهمة الحريصين على مصلحة عربية مشتركة هى السعى لإقامة مثل هذا النظام أو بعث الفعالية فى المنظمات العربية القائمة.
للأسف الشديد مقومات هذا النظام غائبة فى الواقع العربى الذى أنتجته الثورة النفطية وقرار الرئيس السادات بالسعى لصلح منفرد مع إسرائيل فى نوفمبر ١٩٧٧. النظام الإقليمى الفعال يستند إلى رؤية مشتركة لمصادر تهديد واحدة وإلى إطار من القيم يجعل تحقيق المصلحة القطرية رهنا باكتساب التضامن خارج الوطن. النظام الأوروبى يقوم منذ البداية على تصور لمصدر تهديد واحد وهو الخطر السوفيتي، ويعتمد على إطار من القيم يفترض أن التأييد الشعبى للحكومة هو بسبب انتصارها لمشروع يمتد خارج حدودها، بنفس هذا المنطق تعاون العرب معا عندما كانوا يتفقون على مصدر تهديد واحد لهم جميعا وهو الوجود الصهيونى فى فلسطين، ولذلك وقفوا جميعا ضد العدوانية الإسرائيلية فى ١٩٤٨ و ١٩٥٦ و١٩٦٧ و١٩٧٣، وكانت النظم العربية تكتسب شعبيتها بل وشرعيتها من خدمة مشروع يمتد خارج حدودها، وحتى الملك فاروق كان يسعى لكسب الشعبية بالدخول فى حرب فلسطين، وطبعا جمال عبد الناصر والقيادات البعثية فى سوريا والعراق كانت تتنافس لإظهار أنها الأكثر إخلاصا لمشروع القومية العربية، واضطرت النظم المحافظة لمجاراة هذا التيار الجارف وقتها. وعندما حاول بعضها محاربته، مثلما فعل المرحوم الملك فيصل فى ستينيات القرن الماضى، فكان ذلك برفع شعارات مشروع آخر هو المشروع الإسلامى الذى يمتد خارج حدود السعودية.
أما فى الوقت الحاضر فلا يوجد مصدر تهديد واحد تتفق على مواجهته كل الدول العربية، وكان أول من خرج على ذلك هو الرئيس الراحل أنور السادات الذى تصور خطأ بكل تأكيد أن إسرائيل ليست خطرا وأنه يمكن إقامة السلام معها، وامتدت هذه الرؤية بعدها وبسنوات إلى قوى سياسية وحكومات عربية ابتداء بمنظمة التحرير الفلسطينية ثم كل الحكومات التى طبعت علاقاتها رسميا أم على نحو غير رسمى مع إسرائيل، ثم أصبحت حكومات عربية كثيرة بل كلها فى الواقع تجد مصلحتها فى تنمية واستغلال مصادر قوتها الداخلية، وهذا ينطبق تحديدا على حكومات الخليج، فما يكسبها الشعبية والنفوذ الإقليمى والحضور الدولى ليس رفع شعارات تخاطب شعوبا أخرى مثل القومية العربية أو التضامن الإسلامى أو حتى التضامن الخليجى، ولكنه استغلال موارد البترول والغاز الطبيعى أو الطاقة الشمسية داخل حدودها، وهو الذى قد يمكنها من إقامة علاقات متوازنة مع إسرائيل، وتبدو المقاومة الفلسطينية بالنسبة لها مصدر ضيق حبذا لو تخلصت منه باتفاق مع إسرائيل.
هل يمكن أن تتغير هذه الأوضاع فى المستقبل القريب؟
يتوقف ذلك عندما تأخذ القيادات العربية خصوصا فى المشرق العربى تصريحات القادة الإسرائيليين حول حدود إسرائيل الموعودة مأخذ الجد، فترى فى ذلك مصدر تهديد لها وتجد فى التضامن مع الدول التى يمتد لها هذا التهديد مصدر قوة لها.