عشبة فى الصخر
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 4 يونيو 2014 - 8:05 ص
بتوقيت القاهرة
جمعنا حديث عن الثورة. تطرقنا فى أوله إلى غياب المفهوم فى لغات الأقدمين من أهل البداية والبداوة، حين كان التنقل الدائم طبيعة، وحين كانت مشقات الحياة والكوارث تفرض على الناس الانصياع التام لقوى من خارج الطبيعة، أو لقوى من الطبيعة ولكن أقوى من البشر، مثل النار والرياح والأصنام الجرانيت والبراكين والجبال الشامخة، قوى يخشون غضبها ويبتغون رضاها، لا يعصون لها أمرا إن تخيلوها تأمر ولا يتمردون عليها إن غضبت، قوى يستحيل أن تستكين أمام عبيدها إن هم هاجوا أو انتفضوا.
•••
تفرع الحديث. استعدنا عبارات راجت. راح أحدنا ينتقد أقرانا له لأنهم أخطأوا حين صاغوا عبارة «ثورة يناير كانت ثورة شباب». أخطأ من صاغ وأخطأ من وهب نفسه ومؤسساته وحلفاءه وثرواتهم جميعا لوأدها. لا شك أن هناك من آمنوا واقتنعوا بأن الثورة ما كانت لتنشب لو لم يوجد شباب خططوا ونفذوا ضد إرادة بقية فئات الشعب. هؤلاء فهموا أنهم إذا قمعوا الشباب أو رحلوهم أو فتكوا بهم، فلا ثورة كانت ولا ثورة ستكون.
صديق آخر تطوع فقال إن «الثورة» لا تكون ثورة إذا لم تشارك فيها كافة أو معظم أجيال المجتمع. يشارك الشيوخ فى نشوبها عندما لا يبخلون بالحكمة والرأى الرشيد حول ما آلت إليه الأوضاع فى الوطن، وعندما ينشطون لإقناع القاصى والدانى بحال الضرورة التى تستدعى سرعة تغيير الفئة الحاكمة. يشارك الشيوخ أيضا عندما يشعلون المصابيح كل ليلة على امتداد سنوات وربما عقود كما فعلوا فى مصر لينيروا الطرق المظلمة، والشباب على رأسهم، وكل المحتجين والغاضبين والمحرومين والمظلومين.
•••
لم نعرف أن تاريخ الثورات الشهيرة ميز بين شاب وكهل، أو بين امرأة ورجل. كنت قريبا من ثورات غير قليلة. كنت قريبا من الثورة فى شيلى حين اكتمل اقتناع الناس، عامة الناس، أن ظروفهم لم تعد تحتمل الانتظار والتسويف، وأن الفساد ضارب فى القمة وضارب فى العمق وضارب فيما بينهما. فقدوا الأمل فى أن يأتى الإصلاح على أيدى القابضين على مطرقة السلطة. كانت الثورة على ألسنة أو فى حلوق أكثر المواطنين. وفى لحظة عامرة بالبهجة والغضب خرجت النساء إلى الشوارع، خرجن يحملن أوانى الطبخ يطرقن عليها بالشوك والملاعق، ويطالبن بنهاية لحكم استبداد فرضه نظام الجنرال أوجستو بينوشيه، وفرض معه الفساد ولجان التعذيب واختطاف المعارضين من فراش النوم وأحضان نسائهم وأطفالهم وفرض الإعدام بدون محاكمة. انتصرت الثورة وسقط حكم بينوشيه وقام نظام ديمقراطى، وتولى الرئاسة رجال ونساء جاءوا بالانتخاب، آخرهم اثنان، رجل أعمال عظيم الجاه والثروة والأصل الأرستقراطى، خلفته فى المنصب سيدة يسارية أصولها اشتراكية ومسيرتها نضالية كمسيرة والدها ومنتصرة دائما لحقوق المرأة وغيرها من الفئات المهمشة فى المجتمع. انتصرت الثورة ولم نسمع أو نقرأ أنها كانت ثورة نساء.
•••
لا يخلو بلد من أفراد يحبون وطنهم، يغارون عليه ويتمنون له الخير ويتألمون لآلامه، يعملون فى هدوء من أجل أمنه وسلامته ويسعون ليلهم ونهارهم لإقناع أصحاب الأمر وأهل الحكم أن الإصلاح ضرورة، وأن نظافة اليد لا غنى عنها لتقدم الأمة ورقيها، وهى مسئولية الحاكم والمواطنين معا. هؤلاء كثيرون وهم فى غالبيتهم العظمى نفر طيب لا ييأس ولا يتعب. هؤلاء مثل العشبة «الشيطانية» الخضراء التى تتحدى المستحيل فتصر على أن تنبت فى الصخر، ثم تنمو وتنمو لتخرج إلى النور والهواء والحرية التى تستحقها، وتنمو وتنمو فى اتجاهات أخرى لتتجذر فى جوف الصخر، هذه النبتة البريئة والناعمة والطاهرة التى لم يغرسها بشر، قادرة بضعفها الخارق على أن تتحدى عناد الصخر بل و«أبديته» لترى الدنيا وتستنشق نسمات الحرية.
•••
قصة هذه العشبة هى قصة الثورة. لم «تنشب» بدعم من الخارج ولم تعتمد وهى طرية العود على قطرة ماء من سماء لا تراها أو على تربة خصبة فى بطن صخر قاس لا يرحم. عرفت بالأمل وحب الحياة وعشق الحرية أن اقتلاع فرع من فروعها لن يقضى عليها، فجذورها ضاربة فى جوف الصخر وعلى استعداد لأن تنتشر فيه تهدد ببساطتها ونعومتها، ولكن بعنادها وإصرارها، صلابة هذا الصخر ومناعته.
•••
توافقنا بعد حديث ممتد على أن النظام السياسى غير الديمقراطى يولد وفى بطنه بذور الثورة، تماما كالصخر يخلق وفى جوفه بذور نبتات لن تعيش إلى الأبد محرومة من هواء وشمس.