شرف «المقاومة» في كتابة بهاء طاهر
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 4 نوفمبر 2023 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
لا يثور الجدل ويحتد ويشتد حول أهمية الأدب ودور الفن واتصاله من عدمه بحياة الناس مثلما يثور ويحتد فى أوقات الأزمات الكبرى أو المحن التى تلحق بأمة ما فى وطن معين (وهل هناك ما هو أشد وأقسى من محنة أهلنا فى فلسطين فى ظل العدوان الإسرائيلى الوحشى الكاسح ضد المدنيين والأطفال والنساء منذ قرابة الشهر).
وقد كان بهاء طاهر من المشاركين بقوة وإخلاص فى هذه المسألة؛ ولم يكن يُسأل فى مرة من المرات أو فى حوار من الحوارات حول علاقة الأدب بالمجتمع، ومدى اعتقاده فى أن الأدب يمكن أن يظل وسيلة لتغيير المجتمع فى ظل التقدم التكنولوجى الهائل وسيطرة وسائل الإعلام إلا وكان يؤكد جازما على إيمانه بالأدب، ودور الأدب وقيمته ودور الفن والإبداع فى ذلك دون شك، بل إنه كان يزيد ويعتبر أن غياب الأدب هو أحد الأسباب الرئيسية للتكلس الاجتماعى الذى نعيشه الآن.
فوسائل الإعلام ذاتها هى التى «تساهم فى ضرب الحركة الأدبية والثقافية، فإذا قارنا بين درجة الاهتمام بالثقافة سواء فى الإعلام المرئى أو المكتوب مقارنة بالأنشطة الرياضية أو الفنية أو غيرها سنجد أنها تصل إلى الصفر، كما أننا لا نساهم على الإطلاق فى التقدم التكنولوجى بل نحن مجرد مستهلكين رغم أن الهند ودول شرق آسيا قطعت أشواطًا كبيرة فى هذا الاتجاه، ونحن محلك سر، بينما وسائل التكنولوجيا من الممكن أن تساهم فى الإقبال على الثقافة... إلخ».
ــ 2 ــ
وقد أشرت فى مقال الأسبوع الماضى إلى أن رواية «الحب فى المنفى» (1995) لبهاء طاهر ــ فى رأيى ــ واحدة من أهم وأجمل روايات المقاومة فى أدبنا العربى الحديث (أو هذا ما أظنه). لم تناقش الرواية فقط فكرة انهيار الحلم الناصرى والبكاء على أطلاله، كما اختزل البعض قراءة الرواية، ولكنها بالأساس تناقش أيضًا انهيار الحلم القومى، وتحولات عالم صعود النفط، أو التحول من قوة «الثورة» إلى قوة «الثروة»، وفساد هذه السياسات التى اكتست طابعًا لا أخلاقيا، ثم حالة الافتراق والتشتت العربى، ثم تبعات الحرب الأهلية اللبنانية، بالتوازى مع انتشار الأصوليات والصحوات الدينية السياسية (تيار الإسلام السياسى بأجنحته وتياراته منذ سبعينيات القرن الماضى وحتى وقت كتابة الرواية).
إن «الحب فى المنفى» رواية تحمل فى ثناياها إدانة أخلاقية وإنسانية للثقافة الغربية والحضارة الغربية الحديثة وادعاءاتها الكاذبة، بل إنها تزيد وتكاد تتنبأ بأفولها لأنها أصبحت تقوم ــ علنًا ــ على أسوأ قيم الرأسمالية المتوحشة؛ الانتهازية والجشع، والعنصرية، والأنانية، ويبرز فى القلب من هذه الإدانات الحارقة إدانة التحيز الغربى للكيان الصهيونى الذى برز بدمامته وكامل قبحه فى الأحداث الأخيرة، والاعتداءات الإسرائيلية على غزة.
ــ 3 ــ
وقد أشرت أيضًا إلى أن بهاء طاهر كان فى طليعة المؤمنين بالقضية الفلسطينية، والحق فى المقاومة والدفاع عن الأرض والعرض إيمانه بذاته.
وقد سمعت بأذنى فى أكثر من لقاء جمعه بصديقه الكاتب الراحل الكبير إبراهيم أصلان يقول «إيمانى بقضية فلسطين وكراهيتى للصهيونية تكاد تكون من مكونات جيناتى»، ولا غرابة فى ذلك لا فى موقف بهاء ولا إبراهيم أصلان، فكلاهما كانا فى الطبقة الأولى من كتاب الستينيات الذين كانت قضية القضايا فى وجدانهم جميعًا هى (القضية الفلسطينية)، وكان مؤمنا بحق الشعب الفلسطينى فى البقاء بأراضيه، وبحق العودة إليها، وبأن النضال من أجل تحرير فلسطين واجب وحق وفرض.
لكن حضور فلسطين و«المقاومة» وفضح ممارسات المحتل الإسرائيلى وتضمين سرده الروائى السابق على الحب فى المنفى دفاعا مجيدا عن الحق الفلسطينى وتفنيدا جماليا لكل ما ارتكبته إسرائيل وقوتها المسلحة الغاشمة من جرائم وحشية فى حق المدنيين، وفى حق الأطفال والنساء والشيوخ.
ــ 4 ــ
لنقرأ هذه الفقرة الدالة فى روايته «شرق النخيل» التى صدرت للمرة الأولى عام 1985؛ يقول الراوى:
«وتحت العنوان ــ سين وجيم حول ميونيخ ــ (جاء التالى، والزيادة بين القوسين للشرح من كاتب هذه السطور)
ــ سين: لماذا اهتز الضمير العالمى بهذا العنف لمصرع الرياضيين الإسرائيليين فى ميونيخ وصب لعناته على الفدائيين الفلسطينيين الذين نفذوا عمليتهم ــ مع أنهم أيضًا قد ماتوا ــ؟
وأين كان هذا «الضمير» وهذا العنف عندما أغار الطيارون الإسرائيليون الشبان بروحٍ رياضية على الأطفال المصريين فى مدرسة بحر البقر وقتلوا منهم العشرات؟
ولماذا كان هذا الضمير نائمًا عندما هاجم الإسرائيليون الرياضيون قرية دير ياسين الفلسطينية، وبقروا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فى الأرحام مع الشيوخ والنساء؟
ــ جيم: الضمير العالمى يتحرك حسب الطلب، والطلب دائمًا فى صحف الغرب صهيونى، ولن يُشفى هذا المريض العالمى ويتحرك لصالحنا إلا إذا أطلقنا كل مدافعنا وحررنا كل أرضنا..».
ومثل هذه الفقرات كثير ومتناثر فى روايات بهاء طاهر وقصصه، وكل منها يصلح مدخلا وشاهدا لتحليل موقفه من القضية الفلسطينية عموما، ومن قيمة المقاومة ومشروعيتها فى ذاتها لأصحاب الحقوق المنهوبة والمسلوبة ومن اغتصبت أراضيهم وشردت أسرهم كما فى المأساة الفلسطينية منذ 1948.
ــ 5 ــ
كتبت هذه الأسطر منذ أربعين سنة تقريبًا، وكأن بهاء طاهر الذى غادرنا منذ عام كامل يعيش بيننا ما زال، ويشاهد معنا فصلًا من فصول المأساة التى لا تنتهى، ويرصد بحس الأديب «الملتزم برفق» (بتعبير الناقد الكبير سيد الوكيل) أزمة الضمير الغربى كله، ازدواج المعايير، وتفاوت المبدأ الأخلاقى، وخيانة القيم الإنسانية، والتمييز العنصرى، والكذب... إلخ، ما شاهدناه عيانا بيانا جهارا نهارا فى الأسابيع الماضية.
(وللحديث بقية...)