فيتش ترفع التصنيف

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 4 نوفمبر 2024 - 7:05 م بتوقيت القاهرة

تعانى الدول النامية من انخفاض التصنيف الائتمانى لجدارتها فى سداد التزاماتها من قبل وكالات التصنيف الائتمانى المعتبرة. تقبع غالبية الدول النامية فى منطقة التصنيف غير الاستثمارى non-investment grade، الأمر الذى يعنى أن عليها سداد تكلفة كبيرة للاستدانة، نتيجة ارتفاع مخاطر التعثّر عن السداد. وإذا كانت الدولة كلها مصنّفة ائتمانيًا عند مستوى معين فهذا يعنى أن كل مؤسساتها المالية يتم تسكينها تحت هذا السقف الائتمانى، بما يرفع من تكلفة التمويل لتلك المؤسسات بالتبعية.

 


يعتقد الاقتصادى المرموق جيفيرى ساكس (صاحب كتاب نهاية الفقر) أن هذا الأمر وحده من شأنه أن يُحد من قدرة الدولة النامية على الخروج من دائرة الفقر المفزعة، إذ إن أية دولة نامية تفتقر بنويًا إلى معدلات الادخار المحلى الكافية لتمويل أعباء التنمية؛ من بنية أساسية إلى متطلبات التنمية البشرية إلى سداد الديون القائمة.. ومن ثم فإن تلك الدول لا بد لها أن تلجأ إلى المقرضين الدوليين من الدول والمؤسسات وعبر أسواق الدين من خلال إصدار سندات وأذون الخزانة بغرض تغطية الفجوة التمويلية.. انخفاض التصنيف الائتمانى إلى مستوى B المنفردة يؤدى إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض، لأنه يعنى ببساطة أن تلك الدولة عليها أن تدفع المزيد من النقود لتعويض المقرضين عن المخاطر الائتمانية الكبيرة التى يتحملونها نتيجة إقراض تلك الدول ومؤسساتها المحلية. هنا أيضًا تنشط مؤسسات أخرى للتأمين على إصدارات الدين منخفضة التصنيف ضد مخاطر عدم السداد، الأمر الذى يضيف إلى تكاليف الاقتراض تكلفة جديدة للتأمين يتحملها المصدر (المقترض) سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
• • •
منذ أيام أصدرت مؤسسة فيتش للتصنيف الائتمانى تصنيفًا جديدًا لمصر سجّل تحسّنًا من رتبة B- إلى رتبة B مع نظرة مستقبلية مستقرة ترجّح ألا يتم تغيير تلك الرتبة فى المراجعة المقبلة للوضع الائتمانى المصرى. هذا الرفع فى التصنيف لم يكن مفاجئًا إذ أن المراجعة السابقة لفيتش حملت نظرة مستقبلية إيجابية، بما مؤداه ترجيح احتمال رفع التصنيف فى المراجعة التالية ما لم تتغير إلى الأسوأ المعطيات التى صدر فى ضوئها التصنيف. تحسن التصنيف الائتمانى يعكس انخفاض درجة الانكشاف الخارجى للاقتصاد المصرى فى أعقاب الاتفاق مع صندوق النقد الدولى، وزيادة تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر الذى أدى إلى تحقيق فائض فى ميزان المدفوعات بنحو ٩.٧ مليار دولار كنتيجة مباشرة لصفقة رأس الحكمة مع الشريك الإماراتى.
كذلك يعبّر التحسن فى التصنيف عن ارتياح مؤسسة فيتش لجهود الانضباط المالى الذى أسفر عن تحقيق فائض أولى كبير فى الموازنة العامة للعام المالى ٢٠٢٣-٢٠٢٤ بنسبة بلغت ٦.١٪‏ مع تراجع نسبة العجز الكلى إلى الناتج المحلى الإجمالى إلى ما دون ٥٪‏ (أيضًا على خلفية الاتفاق مع الصندوق وتدفقات الصفقة). كذلك كان هناك دور فاعل لارتفاع احتياطى النقد الأجنبى إلى مستوى قياسى بلغ ٤٤.٥ مليار دولار بقيمة زيادة بلغت ١١.٤ مليار دولار خلال تسعة أشهر فقط. ولم يغب عن مؤسسة فيتش تبرير هذا التحسن فى التصنيف الائتمانى بمسوّغات أخرى منها وحدة سعر الصرف للنقد الأجنبى ومرونته النسبية والتى ارتفعت على أثرها تدفقات الأموال الساخنة بما يقرب من ٣٨ مليار دولار منذ مارس الماضى. هذا بالإضافة إلى توقعات للمؤسسة بتراجع معدلات التضخم من مستوياته الحالية عند ٢٦.٤٪‏ إلى مستوى ١٢.٥٪‏ بنهاية العام المالى الجارى.. وهى توقعات متفائلة بتحقيق كل من السياسة النقدية المتشددة والسياسة المالية التقشفية لأهداف كبح التضخم والاقتراب من معدل التضخم المستهدف الذى يتراوح بين ٥ و٩٪.
• • •
وإذا كانت مؤسسات التصنيف الائتمانى تتعرض باستمرار لانتقادات بشأن تحيّزها وتعارض المصالح الذى يعترى تصنيفاتها وضلوعها فى كثير من الأزمات المالية الكبرى السابقة.. فإن الاستثمار الأجنبى مازال يتطلع إلى تصنيفات فيتش وموديز واستاندرد آند وبورز لاتخاذ قرارات الاستثمار فى مختلف الدول، وتوقّع عائد مناسب على تلك الاستثمارات فى ضوء المخاطر ذات الصِّلة. يتعين على القارئ الكريم أن ينظر إلى ديون الدولة المقترضة باعتبارها استثمارًا من وجهة نظر المقرضين والمكتتبين والمشترين لأدوات الدين. كذلك يتعين النظر إلى مختلف بدائل التمويل باعتبارها شديدة الترابط، لأن ارتفاع العائد على الاقراض (سعر الفائدة) هو فرصة بديلة لمن يملك رأس المال ويريد استغلاله بشكل مباشر فى تمويل مشروع ما.. مفهوم الفرصة البديلة يرفع تكلفة التمويل الذاتى للمشروع أو بيع أسهم لشريك محتمل، لأن العائد على الاستثمار يجب أن يبرر للمستثمر لماذا يضع أمواله فى هذا المشروع ويتحمل مخاطره بينما يمكن أن يقرض الحكومة بمخاطر أقل ويحصل على عائد كبير. اقراض الحكومة فى مصر يتم بطريقة مباشرة وأخرى غير مباشرة من خلال إيداع الأموال فى البنوك وهى بدورها تقوم بشراء الدين العام بعائد أكبر.
إذن لو افترضنا ثبات مختلف العوامل فإن تحسن تصنيف مصر الائتمانى يجب أن يترتب عليه انخفاض تكلفة التمويل فى مصر بخفض تكلفة الديون والتى بلغت مستوى مرتفعًا للغاية لدى إصدار أذون الخزانة أجل تسعين يومًا، حيث بلغت ٣٠٪‏ محمّلة بالضرائب أى ٢٤٪‏ بدون ضرائب. كذلك بلغت نسبة خدمة الدين العام إلى إجمالى المصروفات فى موازنة عام ٢٠٢٤-٢٠٢٥ نحو ٤٧٪،‏ وهى نسبة كبيرة تضيّق الحيّز المالى للحكومة.
كذلك يعطى هذا التحسّن فى التصنيف إشارات إيجابية للمستثمر الأجنبى فى غير أدوات الدين، إذ ينطوى اتجاه التغير فى التصنيف على دلالات استقرار بيئة الاستثمار وأداء الأعمال وإن كانت رتبة التصنيف ذاتها عالية المخاطر وتقع ضمن فئة highly speculative حتى ولو صعدت وفقًا لمقياس فيتش واستاندرد آند بورز إلى رتبة ..B+ الخروج من تلك الفئة يتطلب رفعًا تاليًا إلى مرتبة BB- والتى تظل مرتبة غير استثمارية وما يعلوها من رتبتين أخريين!
• • •
لا يفهم من هذا المقال الاطمئنان إلى وكالات التصنيف الائتمانى والتى سبق أن تناولنا انحيازاتها فى مقالات سابقة، والتى منها الانحياز إلى البيانات التاريخية وعدم التوافق بشكل فعّال وكفء مع الصدمات المستحدثة. كذلك لا يمكن أن نتجاهل التقارير الصادرة عن تلك المؤسسات نظرًا لتأثيرها المباشر على تكلفة الأموال وعلى شهية الاستثمار وتوقعات المستثمرين (كما سبق أن أوضحنا). لكن يجب الانتباه إلى مخاطر الأموال الساخنة والتى يغرى تحسّن التصنيف الائتمانى بتدفقها إلى الداخل، لكنها تظل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار فى أى وقت عند خروجها من البلاد لأسباب قد لا تتعلّق بالدولة ذاتها، لكن بتغيرات أسعار الفائدة فى الدول الأخرى والتقلبات الجيوسياسية والأحداث الكبرى التى تسببت فى صدمات خروج الأموال الساخنة من مصر أكثر من ٤ مرات بمعدلات كبيرة منذ يناير ٢٠١١ وحتى تداعيات الوضع الإقليمى فى الشرق الأوسط خلال الأشهر القليلة الماضية.
وحتى يتم تغيير قواعد اللعبة وتعديل النظام المالى العالمى، ليصبح أكثر إنصافًا لدول الجنوب المالى، فإنه يتعين علينا الاهتمام بالتصنيفات الصادرة عن وكالات التصنيف الثلاث، مع الانتباه إلى تحيزاتها والمخاطر المرتبطة بها بما فى ذلك مخاطر تدفق الأموال الساخنة إلى الداخل، لأنها تعنى احتمال الخروج فى أوقات الأزمات. كذلك يجب العمل على جذب الاستثمارات المباشرة إلى القطاعات المنتجة والأكثر تشابكًا فى الاقتصاد الوطنى كونها تصلح أن تكون قاطرة للنمو والتنمية الشاملة المستدامة، متى حققت المستهدف منها، وساعدت على زيادة وتحسين الإنتاج وسد الفجوات وتحقيق التوازن العام فى الاقتصاد بشكل مستدام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved