أسباب وخلفيات توتر العلاقات بين باكستان وأفغانستان
أحمد فاضل يعقوب
آخر تحديث:
الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 - 5:50 م
بتوقيت القاهرة
فشلت الجولة الثانية بين المفاوضات بين باكستان وأفغانستان فى اسطنبول، فى 27 أكتوبر 2025، والتى كانت تهدف إلى وضع آليات، ونظام مراقبة، والتزامات مكتوبة، تتعهد فيها حكومة «طالبان» أفغانستان بعدم انطلاق أى عمليات إرهابية من أراضيها، والسيطرة على عناصر حركة «طالبان» باكستان (T.T.P)، وقد أعقب ذلك تصريحات حادة من وزير الدفاع الباكستانى الذى هدد فيها حكومة طالبان بألا تختبر الإرادة والقدرات الباكستانية، والتى يمكنها فى حالة تكرار انطلاق أى عمليات إرهابية من أفغانستان فإن بلادة يمكنها «أن تزيل نظام طالبان، وتدفعهم مرة أخرى للاختباء فى مغارات الجبال، وأن يشاهدوا وهم يجرون نحو مخابئ تورا بورا».
وبضغوط من الوسيطين الرئيسيين فى هذه المفاوضات، وهما قطر وتركيا، فقد وافق الطرفان على استمرار الالتزام بوقف إطلاق النار، الذى سبق وأن توصلا إليه فى الدوحة فى 19 أكتوبر 2025، وبدء جولة جديدة من المفاوضات فى تركيا فى نوفمبر الجارى، وأيًا كانت نتائج هذه المفاوضات التى لم تبدأ بعد أثناء إعداد هذا المقال، فقد يكون من المفيد التطرق لأسباب وخلفيات وجذور هذا التوتر، الذى أدى لهجوم طالبان على بعض النقاط الحدودية الباكستانية، والرد الباكستانى بضربات جوية فى أماكن مختلفة من أفغانستان ومنها العاصمة كابول، وبما لذلك من تداعيات أمنية، ليس فقط على الدولتين وإنما على منطقة الجنوب الآسيوى ككل، بل وعلى منطقتنا كذلك، وعلى السلم والأمن العالميين، كما نعلم من تاريخ هذين البلدين الحديث.
فى الواقع لم يكن يتوقع الكثيرون أن تصل العلاقات بين باكستان وحكومة طالبان إلى هذا المستوى من التوتر والاقتتال العسكرى، خاصة وأن طالبان نشأت أساسا فى باكستان، وبين طلبة المدارس الدينية على أراضيها عندما فر نحو ثلاثة ملايين أفغان إليها عقب الغزو السوفيتى (من 1979 إلى 1989)، كما أن فترة حكم طالبان الأولى (من 1996 إلى 2001) كانت من أفضل فترات علاقات البلدين على مدى تاريخهما، بل أن الحكومة الباكستانية برئاسة عمران خان كانت قد رحبت بتولى طالبان الحكم مرة ثانية، عقب انسحاب القوات الأمريكية فى أغسطس 2021، وذكر وقتها عمران خان «أن أفغانستان قد كسرت أغلال العبودية»، وبدأت زيارات متبادلة بين البلدين، وقدمت إسلام آباد العديد من المساعدات الاقتصادية والدعم السياسى، وطالبت المجتمع الدولى بالاعتراف بحكومة طالبان.
فما خلفيات هذا المشهد من توتر وأسبابه وجذوره؟
يبدو ذلك فيما يلى:
أولًا: العمليات الإرهابية لتنظيم طالبان باكستان (T.T.P)
فقد نشأ هذا التنظيم فى 2007، فى مناطق قبائل الباشتون داخل الأراضى الباكستانية فى شمال غرب باكستان فى المناطق القريبة من الحدود الأفغانية، وشأنه شأن "طالبان" أفغانستان، كان معظم أفراده من طلبة المدارس الدينية، وقد انتشر بفعل أجواء الحرب التى شنها التحالف الغربى بقيادة الولايات المتحدة ضد حكم "طالبان" أفغانستان والقاعدة، وإزاحتهم بالقوة ووجود ضحايا من المدنيين، فضلا عن الامتداد العرقى لنفس القبائل البشتونية فى أفغانستان، ونظرا لامتثال حكومة الجنرال برفيز مشرف الباكستانية لطلب الولايات المتحدة فيما اسمته التعاون فى الحرب على الإرهاب، وتقديمه التسهيلات العسكرية واللوجستية المطلوبة لها، فقد نشر تنظيم "طالبان" باكستان أفكاره حول أهمية الجهاد، وصبت الحركة لذلك غضبها على الحكومة المركزية الباكستانية لتعاونها مع الغرب، كما قدم التنظيم دعما بشريا، وماديا، ومأوى، لعناصر "طالبان" باكستان لمدة عشرين عاما، أثناء مكافحتها للاحتلال الغربى لأفغانستان، وتشاركا فى الفكر، والأيديولوجية، والدماء، فضلا عن تشاركهما فى العرق والمذهب الدينى وهو صورة من السلفية المسماة (ديو باندى)، ويرأسه حاليا نور والى محسود الذى يتردد فى الإعلام الباكستانى أنه قد تم استهدافه فى التاسع من أكتوبر 2025 بضربة جوية داخل أفغانستان نجى منها.
ومع تولى حكومة طالبان مرة أخرى في2021، وجدت الحركة فى أفغانستان ملجأ ومعينًا وردًا للجميل، فزادت عملياتها العسكرية ضد القوات الباكستانية الأمنية، سواء على الحدود بين البلدين، أو داخل منطقة القبائل التى تعد معقلها.
ثانيًا: مطالب الحركة التى يصعب قبولها من باكستان
تخلط الحركة بين الأيديولوجية الدينية كمفاهيم الجهاد وتطبيق الشريعة الإسلامية، والمطالب العرقية، وهى أساسًا المطالبة بالحد من وجود الأجهزة الأمنية الباكستانية وسلطاتها فى مقاطعة خيبر بختونخوا ذات الأغلبية الباشتونية، وإلغاء باكستان للقانون الدستورى الذى تبناه البرلمان الباكستانى فى عام 2018، والذى بمقتضاه أدمج منطقة القبائل هذه من الناحية الرسمية فى مقاطعة خيبر باختونخوا وفرض السيطرة والسيادة القانونية والأمنية الفعلية عليها، بعد أن كانت من قبل لها وضع خاص، ويحكمها العرف القبلى وتسمى المناطق القبلية المدارة فيدراليًا، (FATA)، كما ترغب فى عودة مسلحى الحركة لهذه المناطق، وهو ما يخل بسيادة باكستان على هذا الجزء من أراضيها.
ثالثًا: معضلة خط الحدود بين البلدين المسمى خط Durand
يوجد معضلة فى علاقات البلدين، منذ نشأة باكستان عام 1947 منقسمة عن الهند، وهو عدم اعتراف كافة الحكومات الأفغانية، منذ عهد الشاه زهير فى النظام الملكى، مرورا بنظام الحكم الجمهورى عام 1973، ثم الحكومات التى نشأت فى ظل الاحتلال السوفيتى، والاحتلال الغربى بقيادة الولايات المتحدة، وإلى الآن. وقد نشأ هذا الخط الحدودى عام 1893 باتفاقية وقعت بين السير هنرى ديوراند، وزير خارجية الهند البريطانية (تحت الاحتلال)، والأمير الأفغانى عبدالرحمن خان، حيث قسم هذا الخط قبائل البشتون إلى جزء منها فى الهند، والجزء الآخر فى أفغانستان، وحينما نشأت باكستان توارثت باكستان هذه الاتفاقية، وبالتالى هذه الحدود بين البلدين، ونذكر هنا بأن أفغانستان كانت الدولة الوحيدة التى صوتت ضد انضمام باكستان للأمم المتحدة عام 1947، بسبب عدم اعترافها بهذه الحدود، وترى أفغانستان أن الاتفاقية وقعت تحت ضغط، وأنها كانت لمائة عام فقط وانتهت، وأن السيادة الأفغانية تاريخيا تمتد إلى ضفاف نهر الاندوز داخل باكستان، على حين ترى باكستان أنها الحدود الدولية التى يعترف العالم أجمع بها، وأن اتفاقية ديوراند(Durand) أعقبها عدة اتفاقيات أكدت محتواها، وأن التاريخ يثبت عكس ما تدعيه أفغانستان.
وقد كانت سياسات معظم الحكومات الأفغانية، هى تقديم الدعم المالى والعسكرى والسياسى لقبائل الباشتون داخل باكستان، وهو ما لا تقبله باكستان باعتباره مهددًا لوحدتها الوطنية وسلامة أراضيها.
رابعًا: موقف نظام "طالبان" أفغانستان
تنفى الحركة بشكل دائم وجود مسلحين أو جماعات إرهابية على أراضيها، وتعتبر أن قضية تنظيم "طالبان" باكستان هى مشكلة باكستانية داخلية، وأن على حكومة إسلام آباد التفاوض المباشر مع الحركة، وأنها على استعداد لتسهيل مثل هذه المفاوضات، وهو ما ترفضه باكستان باعتبار أن الحركة قامت بعمليات إرهابية، كما أنه سبق التفاوض معها فى عامى 2021 و2022، وسرعان ما انقلبت الحركة على تعهداتها واستأنفت عملياتها الإرهابية، كما تدرك باكستان أن مطالب الحركة لا يمكن قبولها لما لها من تأثير على السيادة القانونية والأمنية على جزء من أراضيها فى منطقة القبائل.
ومن جانب آخر فإن حكومة "طالبان" كابول تجد نفسها فى موقف الملتزم بعقائد القبائل وشرفها، بعدم تسليم من أعطتهم حق الضيافة والأمان، ولا طردهم، فضلا عن قتالهم، وهذا الموقف المبدأى هو ما جعلهم لا يسلمون أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة رغم الحرب الضارية، وعشرات الآلاف من الضحايا، وفقدهم الحكم، والاحتلال الغربى لعشرين عاما، وإذا أخذنا فى الاعتبار أن أفراد طالبان باكستان المقيمين لديها ليسوا فقط ضيوفا، بل يتشاركون معها فى العرق والأيديولوجية، كما كانوا رفقاء سلاح ودماء، وسبق أن قدموا لعناصر «طالبان» أفغانستان المأوى والدعم المالى والبشرى والعسكرى، أثناء كفاحهم ضد القوات الغربية بقيادة الولايات المتحدة، (2001-2021)، لأدركنا المعضلة التى فيها كافة الأطراف.
هل تتغلب المصالح المشتركة؟
بالرغم من كل هذه المعضلات فى علاقات البلدين، فإنهما يربطهما مصالح مشتركة تدفعهما لمحاولة إيجاد نوع من التوافق والتهدئة، فباكستان، رغم إمكانياتها العسكرية الضخمة، ليس من مصلحتها أن تنشغل بجبهة أخرى مع أفغانستان، ويكفيها التركيز على جبهتها الشرقية مع الهند، كما أن من مصلحتها الاستقرار فى أفغانستان لكى تستمر فى عملية ترحيل الملايين الثلاثة الأفغان الذين استضافتهم على أراضيها لنحو خمسة عقود، بما لذلك من أعباء أمنية واقتصادية كبرى، كما أن جزءًا مهما من مواطنيها البشتون المقدرين بنحو ثلاثين مليونا، لا يوافقون على النزاع والعمليات العسكرية ضد بنى قبائلهم فى أفغانستان، وعلى الجانب الأفغانى فإنها دولة حبيسة، تعتمد فى معظم تجارتها واحتياجاتها على باكستان، كما تحتاج إلى الاعتراف الدولى، وقدرا من الاستقرار الأمنى الخارجى والداخلى، بعد نحو نصف قرن من عدم الاستقرار والحروب والتدمير.