المنفذ البحرى الإثيوبى.. ونظرية رقعة الشطرنج
أيمن النحراوى
آخر تحديث:
الجمعة 5 يناير 2024 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
لا شك أن تحول إثيوبيا إلى دولة داخلية حبيسة بعد استقلال إريتريا عنها وفقدانها لسواحلها المطلة على البحر الأحمر ومن ضمنها ميناءا مصوع وعصب، هذا التحول لا يتفق مع الرؤية الإثيوبية التى تعتبر نفسها القطب الإقليمى الأكبر فى شرق أفريقيا ومنطقة القرن الأفريقى، باعتبارها مجالها الحيوى ونطاق نفوذها ومخططاتها، وهى فى ذات الوقت تدرك أنها منذ تحولها لدولة حبيسة منذ ثلاثة عقود، فإنها تفقد بذلك ركنا أساسيا من مقومات قوتها الإقليمية، فى ظل عدم تمتعها بأى سواحل أو موانئ كمنفذ لها إلى البحار والمحيطات.
هذه العوامل شكلت لإثيوبيا معضلة جغرافية تتناقض مع رؤيتها وطموحاتها الاستراتيجية كقوة إقليمية، الأمر الذى فرض عليها السعى المستمر للحصول على ذلك المنفذ البحرى، فحاولت فى هذا الإطار عقد اتفاقات مع الدول الإقليمية التى لديها موانئ بحرية، فسعت إلى إريتريا لاستخدام ميناء عصب، وكذلك السودان لاستخدام ميناء بورسودان، وكينيا لاستخدام ميناءى مومباسا ولامو، لكن هذه المساعى فى مجملها لم تكلل بالنجاح.
كانت جيبوتى بعد ذلك هى البديل الأقرب لإثيوبيا التى سعت منذ خمس سنوات للاستحواذ على حصة فى مينائها والدخول فى شراكات استثمارية فيه، ودعمت هذا التوجه بإنشاء خط السكك الحديدية من أديس أبابا إلى ميناء جيبوتى بحيث يتيح لها نقل تجارتها ونقلياتها من وإلى البحر الأحمر والمحيط الهندى والتواصل مع خطوط التجارة البحرية العالمية فى حدود زمن 12 ساعة.
هذا الخط تم إنشاؤه بواسطة مجموعة سكك حديد الصين وشركة البناء والهندسة المدنية الصينية، وقام بتمويله بنك التصدير والاستيراد الصينى، وبنك الصين للتنمية، والبنك الصناعى والتجارى الصينى بقيمة 4 مليارات دولار، فى إطار استراتيجية الحزام والطريق الصينية للدخول والنفاذ إلى شرق أفريقيا.
تأتى هذه المشروعات أيضا فى إطار شراكة إثيوبيا مع الصين للتوجه نحو وضع اقتصادى جديد يفضى إلى تحويل إثيوبيا إلى مركز إنتاجى وصناعى إقليمى، يخدمه أكثر من عشرة موانئ برية داخلية مخطط زيادتها إلى الأربعين، مما يعزز دورها وموقعها كمركز لوجيستى فى شرق أفريقيا تمتد منه سلاسل الإمداد من مصانعها إلى الأسواق فى الدول الإقليمية المحيطة، ومن ثم فارتباط شبكة النقل الإثيوبية بمنفذ بحرى سيكفل لها تنفيذ مخططاتها.
• • •
التطورات السياسية فى تلك المنطقة غير المستقرة فرضت العديد من المخاوف على إثيوبيا، وكان أبرزها التهديدات التى أطلقها مقاتلو قوات دفاع تيجراى خلال الاحتراب الداخلى الإثيوبى الأخير بقطع الطريق الرئيسى الواقع فى إقليم عفر والواصل بين العاصمة أديس أبابا وميناء جيبوتى الذى يربط إثيوبيا بالعالم الخارجى.
وعليه أدركت إثيوبيا أن الاعتماد على هذا الطريق يضعها فى موقف التهديد، ولاسيما أن أكثر من 90% من تجارتها الخارجية تمر من خلاله، كما أن جيبوتى يتواجد بها العديد من القواعد العسكرية البحرية للعديد من القوى الدولية التى قد يكون لها رؤية مختلفة عن الرؤية الإثيوبية فى بعض القضايا مما قد يعرض إثيوبيا لضغوط دولية قد لا تستطيع مواجهتها.
• • •
من أجل كل ما سبق كان لابد لإثيوبيا من البحث عن طرق استراتيجية بديلة لميناء جيبوتى تضمن لها الوصول الآمن إلى ساحل البحر وتحقيق أهدافها العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبأسلوب التحرك على رقعة الشطرنج توجهت إثيوبيا إلى المربعات الخالية وشبه الخالية فى تلك المنطقة الحساسة من القرن الأفريقى وخليج عدن، فوقع اختيارها على الصومال.
فالصومال ليس فقط مربع واحد على رقعة الشطرنج بل هو عدة مربعات كبرى بموقع استراتيجى وإمكانات وموارد هائلة فى منطقة شديدة الحساسية من العالم، وللأسف فهو يشهد فى الوقت الراهن مخاطر كبرى تتعلق بتفكيكه وانفصال أجزائه فى ظل صعوبات تواجهها الحكومة المركزية فى مقديشيو للحفاظ على سيادتها على كامل أنحاء البلاد.
ففى الجنوب والوسط حيث الصراع بين القبائل على الأراضى والنفوذ، شهدت تلك المنطقة صراعا ضاريا بين تحالف أمراء الحرب وبين اتحاد المحاكم الإسلامية الذى حسمه لصالحه، ووقع اتفاق مبادئ ومهادنة مع الحكومة المركزية.
وفى الشمال الشرقى قامت إدارة ذاتية للإقليم تسمى إدارة أرض البونت أو بونت لاند، وهى لم تعلن الانفصال بل تعهدت بتسيير الأمور لحين انتهاء الاحتراب الداخلى وعودة السلطة المركزية للصومال.
أما فى شمال غرب الصومال فقد تشكلت إدارة ذاتية مستقلة صراحة بمنأى عن الحكومة المركزية فى مقديشيو، وقامت بتنظيم استفتاء وانتخابات بحضور مراقبين من الاتحاد الأوروبى، وأسمت نفسها جمهورية أرض الصومال وأعلنت انفصالها منذ 1991 وأسست حكومة وبرلمان وقوات للجيش، كما أصدرت جوازات سفر لسكانها، وبرغم ذلك لم يتم الاعتراف بها من أى دولة.
لكل الاعتبارات السابقة فقد اتجهت أنظار الحكومة الإثيوبية إليها كى تتخذها شريكا لها فى مسعاها لفتح منفذها البحرى وإقامة مينائها وقاعدتها البحرية، فأعلنت عن توقيع مذكرة تفاهم مع ما يسمى بجمهورية أرض الصومال تتيح لإثيوبيا منفذا بحريا بطول 20 كم واستخدام ميناء بربرة على الساحل الجنوبى لخليج عدن لمدة 50 عاما، مع تطوير الطريق البرى لممر بربرة بطول 260 كيلومترا ليصل بين بربرة والحدود الإثيوبية.
وفى المقابل تتعهد إثيوبيا بالاعتراف رسميا بجمهورية أرض الصومال كدولة مستقلة «فى الوقت المناسب»، مع مساعدتها اقتصاديا وعسكريا وأمنيا.
• • •
لكن يبدو أن الرياح قد أتت بما لا تشتهيه السفن، فلم تمر عدة ساعات على الإعلان عن المذكرة حتى صدرت احتجاجات شديدة اللهجة من الرئيس الصومالى ورئيس الوزراء باعتبار ما تم هو اتفاق غير قانونى وانتهاك إثيوبى لسيادة الصومال وسلامة أراضيه، وعزمت الحكومة الصومالية على اتخاذ كل ما يلزم لحماية البلاد، وحتى حركة الشباب الصومالية المتطرفة أدانت مذكرة الاتفاق واعتبرتها جزءا من أجندة آبى أحمد التوسعية.
إقليميا ومع تنفيذ ما جاء فى مذكرة التفاهم يتوقع تحول نسبة تصل إلى 40% من التجارة الخارجية الإثيوبية من ميناء جيبوتى إلى ميناء بربرة، وهو ما يقلل من اعتماد إثيوبيا على جيبوتى ويجعلها أقل عرضة للضغوط السياسية والاقتصادية من جانبها، أما إريتريا فيبدو أن حكومتها باتت تعيد حساباتها باعتبارها قد أضاعت فرص اتفاق مع إثيوبيا كان من الممكن أن يدرّ عليها إيرادات كبرى من التجارة الخارجية الإثيوبية عبر ميناء عصب.
ردود الفعل على الحدث جاءت ما بين معترض ومتحفظ ومراقب ومتربص، والسؤال الذى يطرح نفسه هل ستنجح التوجهات الإثيوبية فى تحقيق أهدافها رغم الطريق الوعر الذى سلكته عبر منطقة حساسة متخمة بالقلاقل والتوترات السياسية؟! هذا ما سيتبين من قادم الأيام.