الشماعة الفارغة
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 5 فبراير 2023 - 7:50 م
بتوقيت القاهرة
فى بداية القرن العشرين كان أهل بلاد الشام يستخدمون غالبا القطار للوصول إلى القاهرة. كانت حيفا هى محطّتهم الأولى، حيث كانوا يخلدون للراحة بضعة أيّام، تتخلّلها زيارة أكيدة لتلّ أبيب الأكثر صخبا والحافلة بالحياة «الغربيّة». لم تكن يهوديّة تل أبيب تشكّل حينها مشكلةً لأحدٍ. إذ إنّ أغلبيّة اليهود كانوا أحد أجزاء مجتمعات الشام والرافدين ومصر... وخاصّةً فلسطين.
لكن مجرّد مراجعة صحف فترات الانتداب كانت كافية لملاحظة صعود التوتّر حيال موجات الاستيطان ليهودٍ قادمين من بلدانٍ بعيدة وما تواكب مع تواصل هجرة السكّان بعيدا بسبب الأزمات المعيشيّة واستغلال المستعمرين للموارد. هكذا بدا واضحا للكثيرين أنّ بريطانيا عملت رويدا رويدا على تنفيذ وعدها بإنشاء دولةٍ يهوديّة فى فلسطين رغم كلّ الوعود الأخرى والمسئوليّة أمام عصبة الأمم ورغم التكذيبات الرسميّة.
• • •
بالطبع، شكّل إنشاء الدولة الصهيونيّة عام 1948 صدمة تغييرٍ جذرى لواقع مجتمعات متعدّدة الهويّات الدينيّة والإثنيّة. وواقع نقيضٍ جوهرى لمشاريع بناء دولتها المستقلّة. وكان طبيعيّا بالتالى أن ترفض شعوب المنطقة حينها التقسيم وحلّ الدولتين، لا سيّما مع طرد الفلسطينيات والفلسطينيين من أراضيهم ومدنهم وقراهم. فلا معنى لحلّ الدولتين دون حقّ العودة. هذا وقد تواكب ذلك مع اقتلاع اليهود العرب من بلادهم ومجتمعاتهم.
وخلال سنوات 1953 و1955 أجرى جمال عبدالناصر والضباط الأحرار مفاوضات مع الإسرائيليين حول حلّ الدولتين. إلاّ أنّ بريطانيا وفرنسا شجّعتا الجناح التوسّعى فى إسرائيل للمشاركة فى العدوان الثلاثى عام 1956 مقابل الحصول على القنبلة النوويّة. ولم يوقف ذلك العدوان سوى الإنذار النووى السوفيتى، من نفس البلد الذى كان أوّل من اعترف بالكيان الصهيونى.
بعد ذلك، تبوّأت الولايات المتحدة مركز الداعم الرئيسى للغطرسة الإسرائيلية إلى جانب بريطانيا وفرنسا لتقويض دعم العرب لاستقلال بقيّة بلدانهم (مشروع حلف بغداد وغير ذلك). لقد استقلّت تلك البلدان الأخرى، إلاّ أنّ الأمر انتهى بـ«نكسة» حزيران/يونيو 1967 التى عقبتها المطالبة بمجرّد انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل تلك الحرب. وما يعنى ضمنيّا الاعتراف بالتقسيم.
ومنذ ذلك الحين، يعمل الإسرائيليّون بجدٍّ ومثابرة فى سبيل تثبيت الاستيطان فى الضفّة العربيّة والجولان السورى. ولم يمنعهم عن ضمّ غزّة إلى هذه القائمة سوى الكثافة السكّانيّة العربيّة فى القطاع التى تجعل حماية المستوطنات ذات كلفةٍ أكبر بكثير من الكلفة المطلوبة لصدّ بعض المقاومة من هذا السجن الكبير. لقد أعلنت إسرائيل ضمّ القدس والجولان إلى أراضيها خلافا لكلّ قرارات الأمم المتحدة، واعترفت الولايات المتحدة بهذا الضمّ. ولا يمنع إسرائيل من ضمّ الضفّة الغربيّة سوى أنّ تطبيق قوانين «احتلال» وإجراءات اتفاقيّة «أوسلو» أسهل لها بغية إدارة شئون الشعب الفلسطينى هناك ودفعهم إلى الهجرة خارج البلاد. فى مثل ذلك السياق، أعادت إسرائيل سيناء إلى مصر برعايةٍ أمريكيّة مقابل تحييد هذا البلد الرئيس فعليّا حيال القضيّة الفلسطينيّة وقضايا العرب الأخرى.
كذلك تمّ «تطبيع» أغلبيّة المقاومة الفلسطينيّة التى نشأت فى الستّينيات، خاصّةً تلك التى لا تتبع النهج الإسلامى. ثم من مصلحة إسرائيل أن يظهر الصراع على أنّه إسلامى ــ يهودى، وليس فلسطينيّا ــ إسرائيليّا.
لكن على الصعيد الشعبى ما زال الشعب الفلسطينى يقاوم. فى أراضى 1948، من أجل المساواة التامّة فى المواطنة والحقوق فى دولة تتبنّى أنّها يهوديّة. وفى القدس، ضدّ اغتصاب هويّة المدينة المتعدّدة ولحماية الأقصى. وفى الضفّة الغربيّة، ضدّ تجزئة الأراضى وسلبها لإقامة المستوطنات، وفى مواجهة بؤس أوضاع النازحين الفلسطينيين على أرضهم. وما بات يُعترَف عليه عالميّا بأنّه نظام «أبارتايد» (تمييز عنصرى). وكذلك يقاومون فى قطاع غزّة، المعزول عن باقى فلسطين كما عن مصر. ويقاومون فى «الشتات» حول الحقّ فى الهويّة الفلسطينيةّ وحق العودة.
وكلّما اشتدّت هذه المقاومة مقابل تصاعد استفزازات السلطات الإسرائيليّة والمستوطنين المدعومين بجيش الاحتلال، يأتى مسئولون أجانب وعرب ويدعمون «حلّ الدولتين» كأساسٍ لخفض التصعيد. هذا يعود بالذاكرة إلى وعود بريطانيا فى بداية القرن العشرين، وعملها البطىء لتنفيذ وعدٍ دون الوعود الأخرى.
• • •
فى الواقع، توجد حقيقة «دولتين» اليوم على أرض فلسطين. هناك دولة تسمّى إسرائيل، عضوٌ فى الأمم المتحدة ولا تلتزم بقراراتها، وشريكٌ أساسى للولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وغيرها. دولة إسرائيل التى لا تُعامِل كافّة مواطنيها بالتساوى ولا أحد يدينُ ذلك. وتحتلّ أراضى لا أحد يطالبها بالانسحاب منها، بل حتّى مجرّد تطبيق مسئوليّات قوى الاحتلال. وهناك أيضا دولة تسمّى فلسطين، التى تفتقر لأى وجود فعلى لها سوى فى عدّة أبنية فى رام الله، وتمنَع من الانضمام إلى الأمم المتحدة سوى كمراقب، وبالتوازى يتمّ رويدا رويدا قضم الأرض التى يُمكِن أن تؤّسس مستقبلا عليها. إنّ كلّ الجهود تقوم، إسرائيليّا وأمريكيّا وأوروبيّا، لتفكيك إمكانيّات استمراريّة هذه «الدولة» الثانية كدولة على المدى الطويل. هذا فى الوقت الذى تتفتّت فيه «الدولة» فى سوريا، كما تنهار فى لبنان، وتعانى من شرذمتها فى العراق.
وكأنّ وعدا آخر، مثل وعد بلفور، يُعملُ عليه بصمت ولكن بتصميمٍ مثل سابقه. ربّما ليس الأمر «مؤامرة» ولكن نتيجة لذهنيّات منتشرة عالميّا حوّلت القضيّة الفلسطينيّة من قضيّةٍ سياسيّة إلى ملفٍّ إنسانى. ملفّ مجتزأ، لا يدين «الأبارتايد»، بل يقدّم مساعدات ليثبّت بالحدّ الأدنى مسار إطفائه. ملفٌّ كغيره من أزمات المنطقة يشكّل فقط مجالا لأحداثٍ تنشط عليها قنوات التلفزة الإخباريّة. ملفٌّ يخضع للصراعات الإقليميّة والدوليّة بالوكالة على بلاد الشام والرافدين، وغيرها. باختصار ملفٌّ لا أفق له.
لقد اعترفت مصر والأردن بإسرائيل كدولة و«طَبّعتا» العلاقات معها. ثمّ تبع ذلك «تطبيعٌ» صريحٌ أو ضمنى من دول الجزيرة والمغرب العربيين من خلال «اتفاقيات إبراهيم» برعايةٍ أمريكيّة. ووصل «التطبيع» فى بعض الأحيان إلى التعاون الوثيق الأمنى والتبادل التجارى النشط، خاصّة من خلال اتفاقيات الإعفاءات الضريبيّة للصادرات إلى الولايات المتحدة.
اللافت أنّ استخدام مرجعيّة النبى إبراهيم الخليل فى التسمية يُعيد الموضوع إلى صراعٍ إسلامى ــ يهودى. وكأنّ اليهود العرب لم يكونوا عربا فى الأساس كما يبيّن اليوم «المؤرّخون الجدد» فى إسرائيل نفسها. وكأنّ الإشكاليّة كانت بين دول الخليج العربى وإسرائيل، وليست ضمن أرض فلسطين فى الجوهر وحول نصرة العرب للشعب الفلسطينى فى نضاله.
هكذا تبدو التصريحات الطنّانة، العربيّة أو الأجنبيّة، حول «حلّ الدولتين» شمّاعة فارغة، تتهرّب من إدانة «التمييز العنصرى» والاحتلال. تصريحاتٌ يبدو أنّها ستستمرّ طويلا طالما لم تتغيّر الذهنيّات العربيّة والخارجيّة عمّا هى عليه اليوم.