القاهرة.. مدينتى وثورتنا (٧)
أهداف سويف
آخر تحديث:
الخميس 5 مارس 2015 - 8:20 ص
بتوقيت القاهرة
القاهرة.. مدينتى وثورتنا (٧)
الجزء الأول
١٨ يـــومـًا
الأحد ٣٠ يناير
الدكتور ممدوح حمزة حَوَّل مكتبه إلى مقر ثورى، واليوم اجتماع لبعض الشخصيات العامة المعارضة لنظام حسنى مبارك ــ أغلبها من القانونيين.
معظم الحضور عمرهم فوق الخامسة والستين، يجلسون فى دائرة ويدور عامل البوفيه عليهم بصينية القهوة. الكل يتحدث. حين ينصت أحدهم ينصت فقط إلى أن يمسك بطرف خيط يستطيع أن يلتقطه ويسير هو به متحدثا. تعبر ذهنى فكرة قاسية: هذه هى القيادة السياسية المعارضة التى فشلت.
يتحدثون عن ضرورة إنشاء جبهة وطنية تملأ الفراغ الذى تركه سقوط الحزب الوطنى الديمقراطى، عن ضرورة النداء بانتخاب جمعية تأسيسية لكتابة الدستور، والحديث والنقاش كله يتسم بنفس الطابع النظرى الذى عهدناه مدة ثلاثين عاما: قوائم لأشياء على أحدهم القيام بها.
لكن مضيفنا وعدنا بزيارة من بعض الشباب القيادى فى الثورة، وحين يدخل الشباب تدخل معهم دَفعة من الطاقة. ستة من الشباب كلهم فى العشرينات، يتصرفون كأنهم فريق رياضى؛ يضمون على بعض ويتشاورون بسرعة، يمررون الحديث لبعضهم البعض بإيماءة أو نظرة، يتحدثون باختصار وبسرعة وبحسم وبتواضع وأدب.
يقولون إن الفضل فى تحريك الجماهير لايرجع لهم، وأنهم بالكثير حركوا ٢٠٪ ممن خرجوا يوم ٢٥، أما البقية فقد كان تحركها تلقائيا، عضويا، فاجأهم كما فاجأ الجميع. حين استقبلت صفحة «كلنا خالد سعيد» على الفيس بوك أكثر من ثلاثمائة ألف استجابة لنداء الخروج يوم ٢٥ قررت إحدى عشرة مجموعة على الفيس بوك أن تلتقى وتنسق.
التقوا (جسديا) سرا، ونسقوا أنفسهم وأصدقاءهم. هم نحو ثلاثمائة من الشباب. لا، ليسوا كلهم معارف. للأسف لايستطيعون أن يعطونا معلومات أكثر عن كيف يعملون، لكنهم يريدون أن يسجلوا هنا أنه لولا كل ما قامت به القيادات القديمة من نشاط سياسى واحتجاجات وكتابات عبر السنوات الماضية، لم يكونوا ليستطيعوا القيام بما يقومون به الآن: «لقد تعلمنا منكم»، يقولون للمجتمعين، «ونحن فقط نبنى على ما أسستموه». يخيم الصمت، ثم يقول أحد الكبار ببساطة شديدة: احنا معاكم، واللى تقولوا عليه هنعمله».
أخرج إلى الفراندة. شارع المساحة إلى يمينى، لو عبرته سأجد بيتا عِشنا فيه فترة قصيرة وأنا فى الثالثة. يأتينى مشهد أركب فيه دراجة زرقاء بثلاث عجلات فأنزل بها على منحدر مبلط إلى غرفة جلوس. تقف أمى عند البوفيه، ترتدى فستانا ذا جونلة واسعة مقلمة بأقلام رفيعة بيضاء وزرقاء.
الجدران مشتعلة باللوحات الفنية، وفى غرفة الجلوس أصدقاء أبى وأمى ــ منهم من رسم هذه اللوحات ــ يتحادثون ويضحكون وينتظرون السندويتشات الصغيرة التى تُعِدّها أمى عند البوفيه. كلهم فى العشرينات من العمر. هذا هو حى الجامعة، والشارع المجاور هو شارع هارون وهناك نادى أعضاء هيئة التدريس.
كنا نأتى هنا ونحن أطفال، نلعب فى الحديقة، وأبى وأمى فى لقاءات اجتماعية أو تنظيمية. عمل والداى بجامعة القاهرة طول حياتهما، وتبعتهما ليلى، أختى، التى تخصصت فى الرياضيات.
وفى عام ٢٠٠٦ كانت ليلى واحدة ممن أسسوا «مجموعة ٩ مارس لاستقلال الجامعات»، وبدأت هى وزملاؤها فى كفاح السيطرة على النادى/النقابة. كانت تحكى عن الاجتماعات العاصفة وعن الانتخابات المزورة وعن كيف أغلقت الإدارة النادى فى وجوههم فأقاموا الاجتماعات البديلة على الرصيف فى الشارع، وكنت أحاول تخيل كل هذا يحدث فى الحجرات الرصينة عالية السقف ذات الأثاث الخشبى الغامق والسجاد القديم والإضاءة الخافتة التى تحكى بكل ثقة عن الاستقرار والاستمرارية والعمل الأكاديمى.
والآن، وفى اللحظة التى أحاول ــ أنا ذات الثمانية أعوام ــ أن أسترق النظر من الباب الموارب إلى غرفة جدرانها مغطاة من الأرض إلى السقف بالكتب بحثا عن أمى أسمع زئيرا يهز الأرض وأرفع عينى فأرى فى سماء الشتاء الزرقاء الصافية أربع مقاتلات إف ١٦ تحلق فى دوائر: تعلو وتهبط وتنقَضّ ثم تعلو.
تدور خمسا أو ست مرات، ثم ترحل. فى التحرير، سأعلم فيما بعد، حين ظهرت المقاتلات فى سماء الميدان بدأ الناس فى الرقص؛ ابتكروا فى الحال رقصة يتقافزون فيها وهم يشيرون إلى رؤوسهم ويغنون «حسنى اتجنن! حسنى اتجنن!». دخل شاب إلى الفراندة وقال يحذرنى: «من فضلك بلاش تروحى التحرير. ارجعى البيت وخليكى فى البيت.
كل الحوار اللى بيتكلموا فيه جوة ده مش هينفع». أذكره أن هناك نداء بمليونية فى الغد، فيقول إن له صديقا فى الدائرة الخاصة جدا بالحرس الجمهورى وأنهم «عندهم خطة للقصة دى بيستعدوا لها بقالهم مدة طويلة، ودلوقتى جات لهم الأوامر إنهم ينفذوا الخطة. هيعملوا حاجات قذرة جدا، قذرة جدا جدا ما عندكيش فكرة، الموضوع كله هيخلص فى يومين.
أرجوكى تصدقينى». درجات السلم البيضاء تنزل إلى حديقة جميلة معتنى بها، فى جانب منها خطاط يعمل على مجموعة من البانرات الضخمة: «ارحل! ارحل! ارحل! ارحل!» فى سماء التحرير بعد ساعة ستطير المروحيات، تدور وتميل وتدور وتميل، وعلى الأرض نميل نحن فى مواجهتها، نلوح ونضحك ونرفع لافتاتنا ليقرأها من فى المروحيات.
مبارك مد حظر التجول والميدان يموج بمئات الألوف من الناس، ومازالوا يأتون. مبارك أعلن عن تغيير وزارى، وعين اللواء أحمد شفيق رئيسا للوزارة، فهتف التحرير «الشعب يريد إسقاط النظام». بالأمس حين أعلن مبارك تعيين اللواء عمر سليمان نائبا لرئيس الجمهورية، ارتفع هتاف الميدان «لامبارك ولاسليمان / مش عايزين عملا كمان»، وعلى الصفحات الأولى من جرائد هذا الصباح تبدو صورة مبارك وسليمان وهما يقومان بمراسم حلف اليمين كصورة من مسرحية هزلية، فالحقيقة هنا، فيما يحدث هنا: المواطنون فى التحرير، الهتافات، الأعلام الملوحة، الإحساس أننا ندفع بشىء سوف ينصاع لإرادتنا، لانعلم متى ولكننا نعلم انه سوف ينصاع.
نهتف ونغنى ونلوح بالأعلام ثم نجدنا مرة أخرى نرقب السماء لأن الجو حولنا يَثقُل ويُعتم والسماء تظلِم وتظلم ــ ثم يُدَوِّى الرعد. يأتى الرعد من عند الله. ينفجر فى السماء فوق رؤوسنا المرة تلو المرة.
ثم يشق البرق السماوات فتنفتح وينهمر علينا طوفان المطر. نقف مبهورين. ثلاثون دقيقة من الأمطار الغزيرة المنهمرة ثم تروق السماء ويصفو الهواء وتطلع الشمس فينتفض التحرير لامعا براقا وتدوى صيحة الله أكبر فى أنحاء القاهرة. الله معنا وقد منّ علينا بآية وطَهَّر سماءنا من مقاتلات مبارك.
ويصل عمر روبرت، ابنى الأكبر، بعد ساعات عصيبة ومقلقة حين أعلنوا أن طائرته لن تهبط فى القاهرة بل ستعود إلى أثينا. يغيرون رأيهم فيصل ابنى. نقضى ساعتين فى الوصول من المطار إلى الزمالك؛ الجيش أغلق شارع العروبة ليحمى القصرــ بالرغم من أن مبارك فى شرم الشيخ – فنضطر إلى المرور من الشوارع الجانبية، وفى حواجز عشرات اللجان الشعبية، يتذوق عمر الثورة للمرة الأولى. نُظهِر البطاقات والرخص والكل يشكر الكل. فى منتصف الليل ينزل ليتطوع فى اللجنة الشعبية فى شارعنا، وبعد فترة وجيزة يعود، أعادوه ليبحث عن شىء يتسلح به.
هو لايريد بالطبع سكينا من المطبخ، يدور فى البيت قلقا يبحث عن سلاح دفاعى ثم يجد ضالته مرتكنة على شماعة الصالة؛ ينزل ابنى ليحمى شارعنا متسلحا بعصا أمى.
وأبقى أنا لأتذكر المرات التى كنت أدخل فيها هذا البيت لأجد أولادى مع أمى فى الشرفة يتحادثون، أو فى المطبخ وهى تعد لهم الطعام، وكيف انتقلنا من مشهد جدتهم تدفعهم على المراجيح أو تشرف عليهم فى حمام السباحة إلى مشهد عمر يسوق بها فى شوارع القاهرة وأحيانا يصطحبها إلى الحديقة التى أحبتها واقتنتها بالقرب من الأهرامات.
الثلاثاء أول فبراير
سأترك السيارة إلى جانب ذلك المبنى الصغير الذى مازلت أناديه بـ«مسرح الجيب». فى أواسط الستينيات كانت أمى تصطحبنى هنا، نشاهد عروضا تجريبية لمسرحيات بيكيت وبريخت وإيسكِلوس. كنت أحب هذا المبنى ذا الطابع الفرعونى الكامن فى غابة صغيرة من النخيل، وكنت أحب اصطحابها لى فى نشاط مسائى خاص بالكبار.
لكنهم، وبعد العروض التى كانت تستمر لساعات، كانوا دائما ما يدخلون فى نقاشات مكثفة حول إشكاليات مثل «هل يترجم بريخت إلى العامية أم إلى الفصحى؟» و«هل يتوجب على مترجم سوناتات شكسبير أن يعطيها قافية؟» أو «أيهما الأفيد لزمننا هذا: صوفوكليس أم يوريبيديس؟» أو «هل من المشروع وأنت تترجم نصا أن تضيف كلمة لاتؤثر فى المعنى لكنها تضبط الإيقاع؟» كنت أمِلّ.
لكن شيئا بقى معى ــ شىء يتصل، لنقل، بعقيدة أن للفن أهمية، أنه يستحق النقاش، بل والاحتداد والعراك، وأن الفن، والمجهود المبذول فيه، له (أو يجب أن يكون له) علاقة حميمة بالعالم حوله. شىء يتصل بالمسئولية.
الأرصفة متكدسة بالسيارات، منها البى إم ومنها الفيات ١٢٨ القديمة والمرسيدس الأنيقة وسيارات الدفع الرباعى المستهترة بالبيئة، والتويوتا الملتزمة؛ الكل ترك سيارته وجاء ينضم إلى الثورة. أجد مكانا فى الشارع الصغير المؤدى إلى النادى الأهلى. أعبر الطريق وأمر بجانب حدائق الأندلس وعبر كوبرى قصر النيل، حولى على الكوبرى، فى هذا اليوم القاهرى المشمس الجميل، أُسَر من أربعة أجيال تمشى إلى التحرير.
المدخل إلى الميدان عقدة من الدبابات والأسلاك الشائكة والجنود والمواطنين. بالأمس كان اعتصام التحرير يؤَمِّنه شباب اللجان الشعبية يحرسون مداخل الميدان الاثنى عشر. اليوم يبدو أن الجيش يتشارك معهم الحراسة.
فى مدخل قصر النيل نرفع بطاقاتنا الشخصية عاليا، ونحن نمر فرادى خلال الممر الضيق المتروك بين دبابتين. شعور مقبض. الجنود يقفون فوقنا ونحن نمر فى الممر الضيق بين آلاتهم الضخمة، لكنهم يبدون متفاهمين، ويوم الأحد، وبعد أن طارت فوقنا مقاتلات السلاح الجوى، أعلن علينا المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن القوات المسلحة لايمكن أن تطلق النار على الشعب المصرى.
كتائب من المواطنين تستمر فى حملة الموَدَّة التى بدأناها يوم الجمعة: يحيطون بالدبابات، يستندون عليها، يتسلقونها، يُلَوِّنونها، يرشقونها بالأعلام والزهور، يقذفون بأطفالهم إلى الجنود فوقها. كل دبابة تحولت إلى كتلة من البشر، كل ضابط وكل جندى توَرَّط فى محادثات وفى نقاشات وفى التقاط صور له مع الناس. بالأمس أقاموا مباراة كرة قدم ودية: الشعب يلاعب الجيش والجائزة دبابة. كسب الشعب المباراة ولم يتحصل على الدبابة، لكن ضابطا شابا خرج إلى الميدان وأخذ يخطب فينا وهو يكاد يبكى، يحثنا على ألانترك مواقعنا قبل أن توفى مطالب الثورة.
رفعوه على الأكتاف وداروا به فى الميدان: «الشعب، والجيش، إيد واحدة». أقول لأصدقائى غير المصريين، وللصحافة والإعلام الذى لايكف عن السؤال، أقول إننا لسنا اليونان ولاأمريكا الجنوبية، أقول إن الجيش المصرى هو جزء من نسيج المجتمع المصرى وأن الجيش المصرى فى عام ١٩٧٧ وفى عام ١٩٨٥ رفض أوامر مباشرة بمهاجمة مظاهرات المصريين.
الجندى المصرى حين يدخل الجيش يقسم أنه لن يرفع سلاحه فى وجه مصرى. تقول القوات المسلحة إنها سوف تؤمن لنا هذه المساحة التى نقوم فيها بثورتنا السلمية، الديمقراطية، الشابة، التجميعية، جذرية الشعبية، مفتوحة المصادر. يحذرنا جيل أهلى، يُحَمِّلون أولادهم، أصدقاءنا، الرسائل: احذروا! خللوا بالكم! لاتأمنوا للجيش! تعلق أختى بالمَثَل: «حَرَّص، ولا تخَوِّنْش»، وعلى أية حال، هل كان أمامنا خيار آخر؟