مصر عادت!
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الإثنين 5 أبريل 2021 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
غابت مصر عن محيطها الإقليمى العربى والأفريقى لمدة ثلاثين عاما، كانت كل مساعى حاكمها ــ الرئيس الأسبق مبارك ــ هو تنفيذ مشروع التوريث لصالح نجله، وتحويل مصر من جمهورية إلى جمهوملكية، وإشغال الناس ببيع الأراضى وممتلكات الشعب الممثلة فى القطاع العام وغيره بأثمانٍ بخسة لصالح من يدعمون توريث الحكم!
لقد آثر أن يُغلِق على مصر كل الأبواب، واعتقد أن انكفاءها على ذاتها سينقذها من مشاكل كثيرة، وسيوفر لها الأمن والأمان، وأن هذه هى خير وسيلة لحفظ أرزاق أبنائها العاملين فى الخارج، غير مُدرك بأن العاملين المصريين فى الخارج هم كنوز فى البلاد التى يعملون بها، وأن هذه البلاد التى تستضيفهم هى فى حاجة ماسة لهم، ولولا هذه الحاجة الشديدة لهم لاستغنوا عنهم دون الإبقاء عليهم لحظة واحدة!
لم يكن يعلم الرئيس الأسبق أن العاملين المصريين فى الخارج، هم جزء هام من قوة مصر الناعمة، تُحسب قوتهم لصالح مصر لا عليها، فالدول العربية خاصة التى يعمل فيها المصريون يعلمون علم اليقين أنهم يحصلون على كوادر علمية جاهزة ومتميزة، وعلى خبرات كبيرة لم يساهموا فى إعدادها «بهللة» واحدة، وإنما مصر هى التى صرفت عليهم مليارات الجنيهات والدولارات لتعليمهم، ولتأهيلهم على أفضل مستوى علمى وخبراتى لخدمة سوق العمل فى داخل مصر وخارجها!
***
إن أستاذ الجامعة والطبيب والمهندس... أغلبهم سافروا إلى أوروبا، وإلى أمريكا وكندا واليابان... لينالوا أعلى الدرجات العلمية، وليكتسبوا أحدث العلوم، وقد تحملت مصر كل هذه التكاليف، أما الدول المُستَأجِرة لهذه الخبرات فهى تدفع لهم أجورا زهيدة لا تتناسب مع ما صُرف عليهم، وبالمقارنة لما يتقاضاه مواطنوهم من نفس المهن! هذه الحقائق كان يجهلها حاكم مصر الأسبق، وهذا ما وعته دول المهجر، فلاقى كثير من المواطنين المصريين العاملين فى بعض الدول العربية أسوأ معاملة، وصلت فى بعض الأحيان إلى قتلهم، وإرسال جثثهم فيما سُمى بـ«النعوش الطائرة»!
أثيرت لأول مرة قضية «النعوش الطائرة» فى جريدة الأهرام، 15 نوفمبر 1989، وذلك عقب وصول طائرات تحمل أعدادا كبيرة من النعوش لجثث مصريين كانوا يعملون فى العراق، وفى تصريح إعلامى لمبارك قال إن «العدد قد وصل إلى 8 آلاف»!
وعليه، اجتمعت لجان، وانفضت لجان من مجلس الشعب، ووزارة الخارجية، وعُرِض الموضوع على اللجنة العليا المصرية العراقية المشتركة، وكانت المحصلة تشكيل لجان للتحقيق، وصدور قرار فى بغداد لصرف تحويلات العاملين، تسمح بتحويل (33 دولارا) للعمالة العادية، وبحد أقصى (120 دولارا) شهريا للعمالة الرسمية والفنية، هكذا كانت المحصلة صفرا!
أما عندما تم الاعتداء على الرئيس الأسبق مبارك فى إثيوبيا فى 1996، تم تجميد العلاقات مع إثيوبيا، وتم إهمال العلاقات مع كل الدول الأفريقية ضاربا بعرض الحائط كل المصالح المشتركة مع العمق الجنوبى لمصر، ومصدر الحياة لها! وكان من النتائج المباشرة لهذه القطيعة إبرام اتفاقية «عنتيبى» (2010)، بغياب مصر، بعد مفاوضات استمرت عشر سنين بين التسع دول التى يمر عبرها النهر، ووقع عليها ست دول، وسمحت بخفض حصص مصر والسودان من مياه النيل!
***
وعن السياسة الخارجية، كان الإهمال فى اتخاذ القرارات المصيرية سيد الموقف، فقد كتب السفير الموقر/ سيد قاسم المصرى تجربته فى مقالته «تعقيب على الإنجازات والإخفاقات فى السياسة الخارجية» (8/12/2017 بجريدة الشروق): «على إثر انقلاب البشير فى السودان 1989، اتصل بى الأمير سعود الفيصل (وزير الخارجية) حيث كنت سفيرا لمصر فى الرياض فى ذلك الوقت وسألنى عن موقف مصر من الانقلاب حتى تسترشد به السعودية فى تحديد موقفها فأرسلت للقاهرة أستفسر فجاءنى الرد بأنهم مجموعة وطنية وليس لهم أى انتماءات أخرى، وعند إبلاغ الأمير سعود بذلك قال فى دهشة: هل أنتم متأكدون من هذه المعلومات؟ وما هى إلا أيام أو أسابيع قلائل حتى اتضح للعامة أن التيار الدينى المتشدد متمثلا فى تحالف الترابى والبشير هو الذى قام بالانقلاب»!
وأضاف: «وعندما عدت للقاهرة فى إجازة وناقشت الأمر مع الدكتور بطرس غالى وزير الدولة للشئون الخارجية، قال لى: أنا هعمل إيه.. أنا قلت لهم.. لكن تقييم مؤسسات اخرى كان مختلفا لأنهم ظنوا أنه مادام البشير قد أخذ «فرقة عسكرية» فى مصر فقد أصبح مواليا لنا.. وكانت تقارير سفيرنا فى الخرطوم تؤكد ذلك»! وهكذا ظلت مصر تواجه تهديدات مصيرية، من أهمها الإرهاب وسد النهضة، لمدة ثلاثين عاما من 1989 إلى 2019!
***
ولكن مصر عادت، لأول مرة منذ ثلاثين عاما فى 2011، عندما قامت ثورة 25 يناير، فاستردت نظامها الجمهورى، وأعلنت القضاء على الفساد لتحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية للجميع.
وتُختطف مصر ــ للمرة الثانية ــ ومعها ثورة يناير من الوجه الآخر للنظام الفاسد السابق: «الإخوان وأتباعهم»، ولكن مصر عادت من جديد فى 2013، فيتم تصحيح المسار بثورة ثانية فى 30 يونيو، وتدخل مصر فى حرب ضروس مع التيار الدينى وحركاته الإرهابية، لتعيد النظام والأمن فى الداخل، ولتسترد مسارها القيادى الطبيعى، ووضعها الحقيقى فى الخارج للمحافظة على حقوق ومصالح الوطن.
مصر عادت إلى عضويتها بالاتحاد الأفريقى فى يونيو 2014، فى ثوبها الجديد، وذلك بعد تجميد عضويتها فى يوليو 2013، فقد أصدر مجلس السلم والأمن الأفريقى قرارا بالإجماع، بعودة مصر إلى ممارسة جميع أنشطتها فى الاتحاد الأفريقى، هكذا عادت مصر إلى حيث يجب أن تكون، فى قلب أفريقيا، وعادت أفريقيا إلى مصر.
مصر عادت، فى 16 فبراير 2015، عندما ردت القوات الجوية المصرية بعدة ضربات ضد أهداف محددة على مواقع تنظيم داعش فى ليبيا، بعد ساعات من بث التنظيم الإرهابى لفيديو يصور قطع رءوس 21 من الأقباط المصريين.
مصر عادت، فى 26 مايو 2017، عندما نفذت القوات الجوية، للمرة الثانية، ست طلعات دمرت بشكل كامل المركز الرئيسى لمجلس شورى مجاهدى درنة بليبيا، وستة مراكز للعناصر الإرهابية بنفس المدينة، وذلك بعد هجوم على حافلة فى المنيا أسفر عن مقتل 29 مصريا قبطيا، وبعد إعلان تنظيم الدولة الإسلامية مسئوليته عن الهجوم.
مصر عادت فى يوليو 2020، عندما أعلنت «خطها الأحمر» الأول بأن «سرت» و«الجفرة» خط أحمر، وعليه تغير موقف تركيا تماما بعدما أوشكت بالهجوم على المدينتين الليبيتين، وأعادت حساباتها من جديد.
مصر عادت فى 28 فبراير 2021 عندما تمكن الجيش السودانى، بدعم من مصر، من استرداد أراضيه فى منطقة الفشقة الكبرى شرقى البلاد بعد مواجهات شرسة مع ميليشيات إثيوبية.
مصر عادت فى 12 مارس 2021 عندما أعلنت تركيا رغبتها فى إعادة العلاقات بعد قطيعة استمرت عدة سنوات.
مصر عادت فى 29 مارس 2021 عندما نجحت إدارة قناة السويس فى تعويم سفينة الحاويات الجانحة إيفر جيفين، ومرور أكثر من 400 سفينة كانت محتجزة فى خلال ثلاثة أيام فقط!
مصر عادت فى 30 مارس 2021 عندما أعلنت «الخط الأحمر» الثانى بخصوص حصتها من مياه النيل، وغداة الإعلان تطلب إثيوبيا عودة المفاوضات فورا، فتنعقد بعد ثلاثة أيام فقط فى 3 أبريل 2021!
مصر عادت فى مساء 3 أبريل 2021 عندما طافت فى شوارعها العريقة الموكب المهيب والأسطورى لنقل المومياوات لملوك وملكات قدماء مصر من المتحف المصرى بالتحرير إلى المتحف القومى الكبير للحضارة المصرية بالفسطاط فى القاهرة.
وهنا نتذكر أُنشودة فيروز «مصر عادت»، من كلمات الأخوين الرحبانى، وكأنما كانت تتنبأ بمستقبل مصر فى 1976 أى بعد 45 عاما!
«مصر عادت شمسك الذهب تحمل الأرض وتغترب
كتب النيل على شطه قصصا بالحب تلتهب
لك ماض مصر إن تذكرى يحمل الحق وينتسب
ولك الحاضر فى عزه قبب تغوى بها قبب
(...)
الحضارات هنا مهدها بعطاء المجد تصطخب
نقشت فى الصخر أسفارها فإذا من صخرك الكتب
مصر يا شعبا جديدا غدٍ صوب وجه الشمس يغترب»
***
وختاما، نقول إن هذه الإنجازات العظيمة لم يشوهها سوى الأداء الإعلامى، والذى يفتقد بعضه للحرية والإبداع، ويجب أن نتعلم من التاريخ أن أكبر انتكاسة أصابت مصر فى عصرها الحديث هى هزيمة يونيو 1967، والتى كان من أهم أسبابها هو تأميم الصحافة، وتقييد حرية الرأى، وإلغاء حرية التعبير، واعتبار المعارضة خيانة للوطن، بينما فى الدول المتقدمة تشكل المعارضة حكومة تسمى «حكومة الظل» لمتابعة أعمال الحكومة التى تدير البلاد، فتصحح لها أخطاءها وتعينها على أداء أعمالها بشكل سليم وصحيح!