قناة السويس فى الصراع الدولى بشير عبدالفتاح
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 5 أبريل 2021 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
اقتضت المشيئة الإلهية أن يرتبط أهم شريان ملاحى مائى يصل بين مشارق الأرض ومغاربها، بأبرز المنعطفات الاستراتيجية التى أسهمت فى تحويل مجرى التاريخ الإنسانى. فبينما كانت مصر بصدد عبورها الأول لقناة السويس، عبر إثبات جدارتها فى إدارتها بكفاءة واقتدار، بمساعدة يونانية، فور تأميمها عام 1956، أسفرت الأزمة التى صاحبت تلك الانطلاقة، عن تغيير شكل النظام الدولى بأفول الزمن البريطانى وبزوغ العصر الأمريكى. وفى عام 1973، أفضى اقتحام المصريين العبقرى لأعتى مانع مائى، ودك حصون حائطه البارليفى، توثيقا لأول انتصار عسكرى عربى على إسرائيل فى حرب نظامية شاملة، إلى تغيير مسار الفكر العلمى العسكرى على الصعيدين الإقليمى والدولى.
وقبل أسبوع، تجلى العبور الثالث فى إبهار المصريين للعالم مجددا بنجاحهم فى تعويم إحدى كبريات ناقلات الحاويات عالميا، بسواعد وإمكانات وطنية، ودونما حاجة لتجشم مغامرة تفريغ حمولتها، التى تضم زهاء عشرين ألف صندوق معدنى مكدس بالبضائع، رفعت وزنها إلى 224 ألف طن، فى سابقة لم تشهدها مسيرة النقل البحرى، ما عجل باستئناف الملاحة بالقناة وإنهاء سادس تعليق لها منذ افتتاحها أول مرة عام 1869، من الثالث والعشرين وحتى التاسع والعشرين من الشهر المنقضى.
ورغم أنه قد لا يرقى إلى مستوى الأزمات الجسام، التى ألمت بالقناة فيما مضى، إلا أنه خلف أصداءً دولية مدوية، بعدما أدى تزامنه مع جائحة كورونا، إلى ارتفاع أسعار المحروقات، واضطراب سلاسل التوريد، وتكبيد الاقتصاد العالمى 9.6 مليار دولار يوميا. فوفقا لخبراء، سلط حادث السفينة «إيفرجيفين» الضوء على المخاطر الناجمة عن الاعتماد المتزايد على العولمة المفرطة، بعدما أماط اللثام عن هشاشة وحساسية سلاسل الإمداد والتوريد الطويلة والمعقدة، ومثالب منطق التسليم الآنى، المنبثقين من النظرية «التايلورية»، التى ترى فى تضاؤل المخزون السلعى تناميا فى الاعتماد الاقتصادى المتبادل بين الدول. فلقد أثبتت الأزمات المتلاحقة أنه كلما ازداد الترابط الكونى عبر سلاسل التوريد، أصبح العالم أكثر عرضة للصدمات والأزمات، التى لا تسلم من التسييس. لذا، توالت المطالبات بتقليص الاعتماد على منظومة العولمة، التى يعتريها الخلل بمجرد انكسار إحدى الحلقات الحساسة بسلسلة الإمداد الدقيقة، كما تعاظم الإلحاح بضرورة توفير الدعم الاحتياطى لضمان الحماية اللازمة.
لقد اكتسبت تلك الواقعة زخما دوليا هائلا، بمواكبتها انبعاث الحرب الباردة بين الصين وروسيا وأمريكا، حيث تسعى واشنطن لإعاقة صعود بكين وموسكو كمنافسين قطبيين، والحيلولة دون تلاقيهما استراتيجيا، عبر حشد الحلفاء لتشكيل ثقل استراتيجى مناهض لهما، وإطلاق طريق حرير ديمقراطى لتطويقهما، بينما يتوخى العملاقان الواعدان تقويض الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم. ففى مسعى منها لاستلهام مخرجات أزمة السويس عام 1956، لجهة غروب القيادة البريطانية وانبلاج الريادة الأمريكية، حاولت الصين، ومن ورائها روسيا وإيران وتركيا، أن تجعل من التعطل العرضى لقناة السويس مؤخرا، إيذانا بضمور عولمة ترعاها واشنطن، وإشعارا لإعادة هندسة مسارات التجارة الدولية.
بموازاة العرض الأمريكى بدعم الجهود المصرية لتعويم السفينة «إيفرجيفين»، تنادى المحور الآسيوى البازغ لاقتراح مسارات بديلة لقناة السويس، التى يعتبرها دعامة للعولمة وسلاسل التوريد. فبينما انبرت بكين فى تسويق ما تحويه مبادرة «الحزام والطريق»، من مسارات بحرية وقطارات فائقة السرعة، لنقل الركاب والبضائع من قلب شنغهاى إلى ميناء روتردام الهولندى خلال 48 ساعة، هرعت روسيا، التى تعد أكبر مورد لمنتجات النفط الخام عبر قناة السويس، بواقع 546 ألف برميل يوميا، لاقتراح طريقين: أحدهما، برى يقطع أراضيها إلى فلاديفوستوك، ليرسل الشحنات إلى أوروبا عبر 35 قطار حاويات فائق السرعة أسبوعيا. والآخر، بحرى يسمى «طريق البحر الشمالى NSR »، ويمخر القطب الشمالى، مستغلا تنامى الاحترار الكونى وانخفاض كثافة الجليد القطبى، وانكماش تكاليف الشحن مع تعاظم أحجام السفن، وتراجع أسعار النفط، وانخفاض أسعار الوقود. وبعدما تعهدت بتأهيله للاستمرار طوال العام بحلول 2030، بدلا من يوليو حتى أكتوبر كما يعمل حاليا، مع توفير التغطيات التأمينية اللازمة للشركات الملاحية، تتغنى موسكو بتوفيره أربعة آلاف ميل بحرى مقارنة بقناة السويس، كما تروج لتمتعه بالأمان والاستدامة والاعتمادية والتنافسية.
وبينما جددت طهران مطالبتها لموسكو باستكمال البنى التحتية لممر شمال ــ جنوب، ليربط المحيط الهندى بالخليج العربى مع بحر قزوين مرورا بإيران، قبل التوجه إلى سان بطرسبرغ الروسية، ليختصر الزمن حتى 20 يوما والتكاليف بنسبة 30 %، أقر الرئيس التركى مشروع قناة إسطنبول، لربط البحر الأسود ببحر مرمرة، بطول 45 كيلومترا، وتكلفة 9.2 مليار دولار، مدعيا أنها ستحمى مضيق البوسفور من الحوادث عبر تخفيف أعباء الملاحة عنه كأحد أكثر الممرات الملاحية البحرية ازدحاما، كما ستنعش الاقتصاد، وتحقق أهداف الجمهورية الثانية لعام 2023. وعقب استئناف الملاحة بقناة السويس مؤخرا، أعادت أنقرة طرح فكرة تحويل ليبيا إلى مركز عالمى لتجارة العبور بإنشاء مركز لوجيستى هناك لنقل الصادرات التركية إلى عمق القارة الأفريقية عبر طرق برية، بما يقلص زمن وصولها من 45 يوما عبر قناة السويس، إلى أسبوعين، كما يقلص تكاليف النقل. بدورها، أعادت إسرائيل الترويج لقناة «بن غوريون» أو «البحر الميت»، للربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، بدعم من واشنطن، التى تدرس اقتراحا باستخدام 520 قنبلة نووية لحفر 160 ميلا من خليج العقبة، مرورا بصحراء النقب، وصولا إلى المتوسط.
تبقى تلك المشاريع بمنأى عن النيل من أهمية قناة السويس، التى لا تزال أفضل رابط ملاحى بين الشرق والغرب، يعبره نحو 15 % من حركة الشحن العالمية، ويدعمه خط أنابيب «سوميد» بطول 320 كيلومترا، ليربط خليج السويس بالبحر المتوسط، وينقل 80 % من النفط المتجه من دول الخليج إلى أوروبا. وبينما تمكنت من التأقلم مع التطور المتلاحق فى أحجام سفن الحاويات، يتوقع صندوق النقد الدولى ارتفاع إيراداتها خلال الأعوام المقبلة، فيما توقعت مؤسسة «موديز» استقرار تلك الإيرادات رغم جائحة «كوفيدــ19»، مستبعدة أية تأثيرات سلبية على مستخدمى القناة، لاسيما مصدرى النفط، مع غياب الاضطرابات الممتدة، مؤكدة ثبات التصنيف الائتمانى لمصر عند B2، مع نظرة مستقبلية مستقرة.
علاوة على تكدس خطوط السكك الحديدية البديلة من آسيا إلى أوروبا، والارتفاع المروع بأعباء النقل الجوى، لا ترى شركات الشحن العالمية فى طريق بحر الشمال خيارا عمليا، حيث ترفع موسميته من كلفته، ويفقده ارتباطه بروسيا أى دعم أمريكى. وبينما تحول الكلفة التى تتخطى 50 مليار دولار، دون تنفيذ مقترح قناة نيكاراجوا للربط بين المحيط الهادئ والبحر الكاريبى، فيما يستعصى على سفن الحاويات الضخمة المتجهة من أوروبا وشرق الولايات المتحدة صوب شرق آسيا، المرور بقناة بنما عبر المحيط الهادئ، بسبب ضيق المجرى ومحدودية الغاطس، يفتقر مشروع قناة اسطنبول للإجماع الوطنى التركى، بجريرة أضراره المتوقعة على البيئة وموارد المياه العذبة، بالتوازى مع عجز التمويل، وتواضع الجدوى الاقتصادية.
أما الإبحار عبر رأس الرجاء الصالح، فتحاصره قوة الرياح المعاكسة على طول الطريق، الذى يطيل مسافة الرحلة من آسيا إلى أوروبا بواقع 10 آلاف كيلومترا، تستغرق أسبوعين إضافيين، ما يستتبع تأخيرا لمواعيد التسليم، وارتفاعا بتكاليف النقل، جراء استهلاك ما يناهز 800 ألف طن إضافية من الوقود، الذى يشكل 60 % من تكاليف الرحلة. الأمر الذى يتطلب مدة تشغيل أطول، ورواتب أكثر، وأعباء أثقل على السفن، ومخاطر تأمينية أعلى، لاسيما بعد أن حذرت صحيفة «واشنطن بوست»، من تزايد عمليات القرصنة قبالة القرن الأفريقى. فخلال الآونة الأخيرة، تلقت البحرية الأمريكية اتصالات من شركات شحن شتى بشأن تعرض السفن التى غيرت مسارها إبان أزمة قناة السويس الطارئة لمحاولات سطو، مؤكدة تنامى عمليات القرصنة غربى القارة الأفريقية، حتى أضحى خليج غينيا مركزا عالميا لها. ومن شأن لجوء السفن لاستئجار حراسات خاصة، أن يفاقم نفقات الشحن.
على أية حال، يظل حريا بهيئة قناة السويس استيعاب دروس الأزمة الأخيرة، عبر تبنى السبل الكفيلة بزيادة تنافسية القناة وموثوقيتها فى مواجهة البدائل المزمعة. ولتكن البداية من الحيلولة دون تكرار مثل هذه الحوادث مستقبلا، من خلال إعداد الجهوزية لجميع صور التعامل مع السفن العملاقة، التى غدا الاعتماد عليها اتجاها عالميا منذ مطلع القرن الجارى، فيما بدأت الموانئ توسع مرافقها لاستقبالها، وتوفر رافعات التفريغ والشحن المكافئة لها، بوازع من حسابات اقتصادية ملحة، خصوصا بعدما باتت تلك الناقلات أكثر مأمونية، وأدنى كلفة تشغيلية. فتحية للسلطات المصرية، لسرعة استجابتها للتحدى، إذ عجلت بالتعاقد مع الصين لتوفير خمس قاطرات بحرية بقوة شد تتراوح ما بين 250 و300 طن، تصنع اثنتان منها فى الصين، وثلاث فى مصر.