روح العالم
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 5 مايو 2021 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
رأيت الصين فى غمرة انبهارى بأمريكا. رأيتها شابا، ليس تماما غرا. تخرج من جامعة لم تعرف عن علوم السياسة إلا ما خطته ونظمته مناهج التعليم فى أمريكا. قضى بعض عصارى مراهقته وأكثر أمسياتها متنقلا بين دور سينما تعرض فى روعة وإبهار ملاحم انتصارات أمريكا فى معارك الحرب العالمية الثانية وروايات تلهب الخيال تصور نماذج وأساليب حياة فى عالم مختلف. الغريب أن هذا التلقين نفسه، إلى جانب التدريب فى مؤسسات إعلامية أمريكية خلال آخر سنوات الدراسة وشغف الاطلاع على شذرات من حرب الاستقلال وإبداعات الآباء المؤسسين، كان عاملا حيويا فى تشكيل عقل سياسى نقدى ساهم ولا شك فى رسم مستقبل متفرد بعض الشىء ومواقف أزعجت بقدر ما كانت تعبر هى نفسها عن انزعاج.
***
دخلت الصين لأول مرة من بوابة مدينة كانتون، عاصمة الجنوب فى ذلك الوقت والميناء الرئيس على نهر اللؤلؤ، المجرى المائى الذى لا ينام ولا يسمح بالنوم لمن ساقته الظروف ليقيم على إحدى ضفتيه. لم تصبنى كانتون بالصدمة التى أصابت بها أغرابا كثيرين أتوا من الغرب. وصلت كانتون عن طريق البر حاملا سلة لا يحملها عادة الزائر الغربى. سلتى احتوت على طموحات شاب من جنوب العالم، هى نفسها ثمرة مجموعة من التمردات، إن صح التعبير. تمرد على أحوالنا التى ورثناها فى معظم دول الشرق الأوسط نتيجة تطبيق صيغ حكم متردد وفى الغالب تابع. أذكر الآن أننى فى نقاش دار فى أواخر عقد الخمسينيات فى معهد للعلاقات الدولية بالهند مع باحثين من دول حديثة الاستقلال حذرتُ من الاستغراق فى تنفيذ مهمة إعادة بناء الدولة. حجتى كانت أنه ليس من الضرورى أن نهدم المؤسسات القائمة مع كل تغيير فى أشخاص أو أشكال الحكم بذريعة أنها توقفت عن التطور حتى بدت متخلفة بالمقارنة بمثيلاتها فى دول الغرب. الهدم العشوائى، كان فى رأيى، إصرارا غير متعمد على تعميق التخلف وفى أحسن الأحوال تعطيلا لمسارات التحديث والتقدم.
***
قضيت فى الصين فى أواخر الخمسينيات عاما إلا أيام. كانت هوايتنا، أنا وزميلى فى السفارة، خلال معظم أيام هذا العام متابعة العمل عن بعد فى أفران صهر الحديد. أفران منصوبة على امتداد البصر فى أحواش المدارس ومواقع انتظار السيارات فى المصانع والشركات ومؤسسات الدولة والبلدية. أمامنا وحتى الأفق يحتشد دخان الفحم المحترق مختلطا بدخان المنصهر من معادن شتى يلقيها فى الأفران المواطنون المتحمسون، هؤلاء تلاحقهم الميكروفونات داخل مكاتب وصالات العمل «أن اجمعوا الأدوات المعدنية المستهلكة واذهبوا مع أطفالكم إلى أقرب فرن صهر لصهرها، هكذا تساهمون فى اللحاق ببريطانيا العظمى على الطريق نحو التفوق عليها فى إنتاج الصلب، عماد الحضارة والرقى».
وقع فى ظنى خلال الزيارة الأولى للصين أن معظم الهدم كان عشوائيا ولدوافع رمزية استنادا إلى حقيقتين مغروستين فى فكر النخبة الثورية الحاكمة فى ذلك الوقت، الأولى، أن فترات الهيمنة الأوروبية واليابانية بالإضافة إلى قرون قمع وصراعات أمراء الإقطاع والحرب خلفت فى الصين مجتمعا فاقد الروح. الثانية، أن النهضة عموما لا تتحقق إلا بالتصنيع، تصنيع الاقتصاد والعقول والعلاقات داخل المجتمع. وبالفعل جربوا نشر الوعى الجديد بإقامة الأفران البدائية، جربوا أيضا بتنظيم الكوميونات فى الأرياف ثم المدن.. هذه التجارب بدت لنا وقتها وبالحساب البسيط فاشلة، فالمؤكد أنها كانت باهظة الكلفة فى البشر والموارد. لم أقتنع بعديد الحجج، ولكنى خرجت من الصين فى هذه الزيارة الأولى واثقا من أن إنسانا جديدا يجرى إعداده بمشقة رهيبة وكلفة مرتفعة وكلاهما لا يمكن توفيرهما فى مجتمعات نامية أخرى.
مرت عشر سنوات أو أكثر قليلا وعدت إلى الصين وأنا أقوى استعدادا لفهم ما يحدث فيها. خلال هذه السنوات تيقنت بالدرس المكثف والقراءة المتعمقة وملاحظة ظروف التطور فى أمريكا اللاتينية أن ما كنا شهودا عليه قبل عشر سنوات ونحن فى السفارة المصرية فى بكين وما تابعته من بعيد عن تطورات الثورة فى الصين وجرت تسميته مع تجاوزاته بالثورة الثقافية، تيقنت أن الصين تجاوزت المرحلة الأصعب بنجاح، وهى مرحلة بناء الإنسان المنتج. ازددت يقينا عندما اجتمعت مرة أخرى، هذه المرة ضمن وفد مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالسيد شواين لاى الرجل الثانى فى الثورة الصينية. راح يؤكد يومها، وهو النموذج البراجماتى بامتياز، إن طريق الصعود أمام الصين بات مفتوحا. أضاف بثقة متناهية «وممهدا أيضا».
***
بعد نصف قرن تقريبا من زيارتى الثانية للصين وقبل أيام قليلة مضت جمعنى بآخرين تطبيق زووم على حوار ناقش فيه المتحاورون تطورات العلاقات بين الصين وأمريكا، الماضى منها والمحتمل. خرجت وقد زاد اقتناعى بأن الجيل الذى أنتمى إليه كان ولايزال وسيبقى لعقود قادمة شاهدا على عالم يبحث عن روح. لقد ضج العالم، وبخاصة الجزء الغربى فيه، بالشكوى من العيش فى مجتمعات الأفراد فيها هائمون يبحثون عن روح تجمعهم وترشدهم وقت الأزمات مثل الوقت الحالى، وقت اشتعال أزمة الكوفيد. لم تسمع البشرية حتى الآن ردا يفحم صوت جحافل الفيروس المهاجم، لا تسمع سوى اتهامات تتبادلها الحكومات فيما بينها واتهامات بين الحكومات والشعوب واتهامات وانفعالات داخل الشعب الواحد. أزمة الكوفيد ليست الوحيدة فالأزمات التى تعصف بالإنسانية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لا تحصى. إنه الفراغ فى عالم نعيش فيه اليوم، عالم يتمرد بكثير من عدم الرضا وكثير من التردد. نحن شهود على تجارب عديدة يدخلها باحث عن مستقر، وأظن أنه لم يجده بعد. جرب العولمة وتركها نادما. تنبأوا لمصيره بحروب حضارات فاشتعلت فى مواقع كثيرة، وهى الآن تهدد مواقع أكثر. دفعوا به إلى أحضان ما يسمى بالليبرالية الجديدة فالتهمت جل طاقته وشردت الملايين بعد إفقارهم. تشوهت الرأسمالية وها هى مأزومة تحاول تكييف أوضاعها بعد التشوه ثم إنها فى مجتمعاتها التقليدية فقدت جاذبيتها بل لعلها الآن، كما فى أمريكا وفرنسا ودول أوروبية عديدة، تكاد تعلن فشلها فى تحقيق التقارب بين الأجناس التى تعيش تحت خيمتها المثقوبة فى مواقع كثيرة. لا شك أن الغرب بقيادة أمريكا أو بدونها يتحمل الجانب الأعظم من مسئولية هذا الفراغ. هو الغرب الذى هيمن على حياة البشر لقرون عديدة، هذه الهيمنة التى اقتربت إلى نهايتها بعد سنوات أو عقود من الانحدارات المتعاقبة فى قوى الغرب المادية والمعنوية على حد سواء.
***
حسب معايير كثيرة يعتقدون فى الصين أن بلادهم مدينة لما تعتقد أنها الروح التى جلبت لهم الاحترام وصنعت مكانة لهم بين الأمم. بدونها ما وصلت الصين إلى صف القمة أو هكذا يتصورون، وضعوا التفوق على بريطانيا العظمى هدفا نصب الأعين فتفوقوا فعلا عليها ثم على الغرب بأسره باستثناء أمريكا. الروح التى نهضت بها الصين أخرجت مئات الملايين من فقراء الصين من مواقع الفقر والبطالة إلى براح الإنتاج والإنجاز، وفى الغرب يتوقعون بأنه لن يهدأ للصين بال ونأمن على سلامتها ومكانتها إلا حين تحتل هذه الروح، روح الصين، فراغ الروح فى العالم الخارجى الذى تسعى لقيادته.