تلك السماء
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 5 يونيو 2022 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
لى مع السماء قصص، بل ربما روايات، وخاصة تلك التى تتزين بالألف أو كما كان يبدو الملايين من كواكب من النجوم. كانت ليالى صيفنا كما هى صيفيات شعوب البلدان الحارة مغلفة بالهدوء رغم وشوشات النجوم التى تزين سمواتنا, ربما لأننا كنا نلتحف السماء فى ليالى الصيف الحارة، فلم تكن ليالى صيف الخليج أو ربما كل بلدان العالم بهذه الحرارة كما هى الآن، وربما لأنه كان من المعتاد أن نرحل فى الصيف إلى المناطق الأكثر قربا من البحر بحثا عن نسماته المنعشة أو، وفى أسوأ الظروف، تتحول أسطح منازلنا إلى غرف نوم. لا يمكن أن تمحى من الذاكرة فرحة بدء طقوس التحضير للنوم، حيث تتحمل أمى ككل أمهاتنا مسئولية ترتيب سراير تصطف ملتصقة وفوقها شراشف بيضاء ناعمة الملمس كجلد الأطفال مثلما كنا، ثم قوارير الماء المبرد بالثلج والمعطر بماء الزهر أو ماء «المرقدوش»؛ وهو ماء من شجر النخيل التى كانت أكثر الأشجار حضورا فى ذاكرتنا، حيث تضللنا وتطعمنا رطبا وبلحا مسكرا بمحبة من يتحمل العناية بهذه النخيل إلى أن تطرح بلحا أحمر وأصفر. قيل لنا عندما كبرنا إن بلدنا هى بلد المليون نخلة وكنا فى صغرنا لا نصدق ذلك، أى أن تكون هناك نخيل على هذه الجزيرة أو أرخبيل الجزر أكثر من عدد البشر.
• • •
كثرت قصصى مع سموات مختلفة فى جزر وبلدات ومدن وبقية، كثير منها مغروسة فى الذاكرة تدور فى كثير من المقارنات مع سماء طفولتنا الأولى التى اختفت تماما كما كثير من نخيلها المليون وكل تفاصيلها شديدة الخصوصية والجمال.
حتى جاء ذات يوم أخذت العزم فيه أن استجيب لبعض الجنون فى حياة مليئة بالتحضير المسبق والمدروس جدا، فكان أن وافقت على دعوة بعض الأصدقاء للسفر من القاهرة إلى العريش، ولأننا جميعا سننهى أعمالنا الرسمية فى وقت متأخر من يوم الخميس فقد قرروا جميعا السفر واستجاب جزء منى وبقى الآخر متخوفا ورافضا حتى التحفت بسماء سيناء ورأيت أطياف نخيلها بين ضوء عربة وشاحنة وأنغام كاسيت السيارة (نعم كاسيت قبل ال سى دى وكل التكنولوجيات الأخرى). هناك شيء خاص بتلك السماء أخذنى بعيدا إلى ليالى طفولة كدت أن أقرر أنها لن تعود. ما زاد من جمال سماء سيناء المرصعة بملايين النجوم مصطفة واحدة جنب الأخرى حتى لتخال أنها تتابعك وتسير فوقك لتحميك من أى قبح قد يشوه أو كان قد تشوه. فى تلك الليلة استسلمت لمقارنة سماء سيناء بتلك التى عرفتها تلك الفتاة الصغيرة فى ليالى المحرق الصافية. وأعاد صوت عبدالوهاب كثيرا منها رغم أن حليم كان هو رفيق السنوات الأولى. كم تمنيت أن تطول المسافة من القاهرة حتى العريش التى أمضينا فيها ليلة واحدة امتلأت بكثير من التفاصيل التى زادت جمال صورة السماء الأولى ورسخت تلك العلاقة مع السماء الليلية ونجومها.
• • •
اندهش ذاك الرجل الطيب من أهل العريش من لهجتى التى تقترب من لهجتهم، وكذلك المكانة الخاصة للنخيل والبحر الذى يلتحف سماء شديدة النصاعة النادرة، إلا فى تلك الأماكن التى تبقى مخزنة فى ذاكرة بدأت تمتلئ بكثير من القبح والدمع على فراق ناس رحلوا، والأسى وألم هو موت بعضهم وهم أحياء يرزقون يرددون عبارات مزيفة كما هم. عندما نحذف من مثلهم من خزان الذاكرة يبقى ذاك البسيط ساكن العريش الذى لم تتقاطع حياتى به سوى للحظات، وشدنى حضوره أكثر من أى أحد آخر ربما لشدة وضوح صدقه وبراءة لا تشوبها تجاعيد الزمن.
• • •
كثير من السماوات والنجوم ستمر من هنا أو هناك وتبقى تلك الأولى وبعدها سماء سيناء هى ما تجعل كل من حضر من بعدها يسقط مع أول محاولة للمقارنة الصعبة.
• • •
يبدو ذاك الزمن فى هذه اللحظة وكأنه قادم من أفلام الخيال لكثير من أطفالنا بل شبابنا أو يثير ضحكهم الذى قد يتحول إلى سخرية لجيل يرون أنه يعيش فى زمن آخر أو ماضٍ بعيد جدا، ولا يتصورون كيف كان الليل دون تلفزيون أو هاتف ذكى بكل ما يحمله من كثير من الغث والسمين الذين اختلطوا حتى أصبحوا سريعى الذوبان أو حتى ضاع المفيد فى كومة من السخف والتسفيه والعبث!
• • •
صعب أن يتخيل أحدهم أن تسلية النائمين فوق السطوح كانت مسابقة عد النجوم، حيث يدخل الأطفال فى منافسة إلى أن يسقطوا صريعى التعب والنعاس. أهلنا قالوا لنا قبلها إن نومهم بعد تلك الأيام لم يعد كما كان وافتقدوا نومهم العميق بأحلام سعيدة. عندما رحلت النجوم عن سمائنا ثم اختفت السماء أيضا خلف كثير من سحب التلوث أو خلف ناطحات للسحاب وكثير من «الكونكريت»، لم يعد أحد ينام فى المدينة حتى تلك التى انتقلنا للعيش فيها، أى المنامة، هى الأخرى رحلت نجومها وتلونت سماؤها بكثير من غبار وتراب، وابتعد البحر تدريجيا، واختفى ثم أصبح ضحية خصخصتهم التى لم يسلم منها طير ولا قطرة ماء أو ذرة من ملح بحرنا الجميل، حتى زحف الأسمنت ليسرق أحلامنا وذكرياتنا لنتحول إلى مخلوقات لا تشبه نفسها ولا حتى ما كانت عليه.