حدود التغيير فى السياسات التركية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 5 يونيو 2023 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
أما وقد اقتنص منصب الرئيس الثالث عشر للجمهورية التركية، وانتزع أغلبية، غير حاسمة، فى برلمانها الثامن والعشرين؛ ينحو الرئيس التركى باتجاه الهبوط بخطابه الرسمى من فضاء الدعاية الانتخابية، إلى ميدان السياسة الواقعية. بحيث يغدو إلى رؤيته الاستراتيجية أقرب، ومع انحيازاته الإيديولوجية أكثر تناغما.
بدحره المعارضة فى الاستحقاقين الأخيرين، ليمسى أطول رؤساء تركيا مكوثا، وأقواهم سلطة، أضحى الرئيس التركى طاووسا سياسيا لا يقهر. ومن ثم، لم يعد بحاجة إلى مواءمة سياساته الداخلية أو الخارجية، رغبا فى استرضاء الناقمين، أورهبا من مزايدات المعارضة عليه أمام شعبه والعالم. فلقد أمسى، أردوغان، وبلا منازع، عنوان تركيا، الذى سيتعين على العالم طرق أبوابه طيلة سنوات خمس قادمة. كما بات يرتكن إلى تحالف سياسى عريض، يضم طيفا نادرا من المحافظين والقوميين، بما يوفر له مظلة واسعة لقراراته الجريئة ومغامراته السياسية، التى باتت تجنح للشعبوية. وبينما جرت العادة أن تنطلق ثورة التوقعات بشأن تغيير السياسات عقب تبدل الأنظمة والحكومات، يشى استمرار نظام أردوغان، بتضاؤل احتمالات حدوث تغيير ملموس فى السياسات التركية، خلال السنوات الخمس المقبلة.
رغم التحديات الاقتصادية الجسام، يمضى أردوغان، بإصرار على درب الجمهورية الثانية، متوسلا «قرن تركيا الجديد»، الذى اتخذه شعارا لحملته الانتخابية. ويسعى الرجل لتكريس فكرة «تركيا القوية المؤثرة» فى محيطيها الإقليمى والعالمى. وفى خطاب النصر، تعهد الرئيس المنتخب بالعمل خلال ولايته الثالثة والأخيرة، على إقامة «حزام أمن وسلام» حول بلاده، عبر سياسة خارجية، تبتغى التقارب مع محيط تركيا، التى وعد بجعلها «النجم الصاعد» فى سماء المنطقة.
لا يخفى مراقبون خشيتهم من أن يكون توجه أردوغان، التصالحى ظرفيا تكتيكيا. فداخليا، ورغم أن الوضع الاقتصادى المتأزم يشكل التحدى الأبرز لولايته الرئاسية الجديدة، يصر الرئيس التركى على مواصلة نهجه السياسى؛ حيث أكد تمسكه بنموذجه الاقتصادى القائم على خفض أسعار الفائدة، أملا فى خفض التضخم. وهو خطاب لا يشى بإمكانية حدوث تغييرات جوهرية فى السياسات غير التقليدية، التى هوت بالاقتصاد التركى إلى أتون أزمة طاحنة. تجلت ملامحها فى تدهور قيمة الليرة، وتفاقم التضخم، وإحجام المستثمرين الأجانب. وفيما يتصل بالعلاقة مع المعارضة، وجه أردوغان انتقادات حادة لأحزابها، متهما إياها بالوهن والعجز. كما دعاها إلى مراجعة أخطائها، قبل ولوج المرحلة الديمقراطية المقبلة، بعدما منحها الناخبون «بطاقة حمراء» ثانية فى جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، وتحديدا العلاقة مع واشنطن، فقد أكد، أردوغان أنه لن يتراجع، قيد أنملة، بشأن الملفات الخلافية. خصوصا، الدعم الأمريكى لوحدات حماية الشعب الكردية، أكبر مكونات قوات سوريا الديمقراطية، كما إلى حركة «خدمة» التابعة للداعية، فتح الله غولن. وهو حليف أردوغان السابق وخصمه الحالى؛ الذى تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. وعن الأزمة الأوكرانية، أكد المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، فى أول تصريح له عقب إعلان نتائج الانتخابات، أن بلاده ترفض الالتزام بأية عقوبات على روسيا، التى ترتبط معها بعلاقات قوية ومصالح متشعبة، باستثناء تلك التى تقررها الأمم المتحدة. وجدد الرئيس التركى، التزامه تنشيط علاقات بلاده بالعالم التركى، الذى يضم الجمهوريات الناطقة بالتركية، مع تطوير مسعاه التقاربى الانفتاحى حيال الصين وشرق ووسط آسيا، بموازاة ترسيخ العلاقات مع الحلفاء الغربيين التقليديين. فى الأثناء، أكد كالين أن بلاده ستبقى العلاقات مع واشنطن ضمن ما يعرف بمقاربة «آلية الصفقات». وفى هذا الإطار، قد يضطر أردوغان، إلى الموافقة على انضمام السويد للناتو، مقابل إتمام أنقرة صفقة مقاتلات «إف 16» مع واشنطن.
تفصح العلاقات التركية ــ الروسية، عن استدامة توجهات سياسات أنقرة حيال موسكو بعد فوز الرئيس أردوغان بولاية رئاسية ثالثة. فلقد أكد فى عقبها، على عمق علاقات بلاده مع روسيا، فى مجالات شتى، مجددا رفض أنقرة الضغوط الغربية لحملها على الانضمام إلى نظام العقوبات على موسكو. الأمر الذى خول الأتراك التوسط بين الأخيرة والغرب. وإلى جانب حاجة موسكو إلى «علاقات يمكن التنبؤ بها» مع أنقرة، تساعد بعض السمات الشخصية المشتركة، على تعزيز التقارب بين الزعيمين، اللذين تجمعهما ميول تسلطية، ونزعة براجماتية، وتوتر متجدد فى علاقة كل منهما بالغرب، كما يبرعان فى سرعة التفاهم، واحتواء الخلافات البينية. وتشكل العلاقة مع أردوغان أهمية متزايدة لبوتين فى ظل العزلة، التى يعانيها الأخير من لدن الغرب، جراء غزوة أوكرانيا فى فبراير 2022. وفى حين يتسنى لروسيا التحايل على العقوبات الغربية، من خلال تمرير صادرات وواردات، عبر تركيا؛ تستفيد الأخيرة من تلك العقوبات، عبر استقطاب أموال الأثرياء الروس واستثماراتهم، فضلا عن الحصول على مصادر الطاقة بأسعار مخفّضة.
بين ثنايا مساعيه لمنع أردوغان من تعميق علاقاته الاستراتيجية مع بوتين، يتجنب الغرب دفع روسيا للانزلاق إلى دوامة الانهيار؛ بما يولد فراغا جيوسياسيا، يفجر أزمات أمنية وإثنية على طول الحدود مع حلفاء واشنطن فى آسيا وأوروبا. لذا، يبقى الغرب حاجته لتوظيف تركيا كضابط إيقاع للعلاقات الاستراتيجية المتقلبة مع موسكو. فحينما يريد تحجيم بوتين، يسمح لأردوغان بالتوسع والتموضع لمزاحمة روسيا جيواستراتيجيا فى بقاع شتى، كشرق المتوسط، وأفريقيا، وليبيا، والشرق الأوسط. ووقتما يريد الغرب التهدئة وإبرام صفقات مع القيصر، تبرز تركيا كحلقة اتصال، لا غنى عنها. مثلما يجرى الآن فى الأزمة الأوكرانية. وهو الدور، الذى تتحصل من ورائه أنقرة على مغانم استراتيجية، لا بأس بها.
عربيا، وبعدما سبق لوزير الخارجية التركى، الإعلان عقب اجتماع وزراء خارجية تركيا، وروسيا، وسوريا، وإيران بموسكو، فى مايو 2022، أنه سيتم العمل سريعا على خريطة طريق لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق؛ ملمحا إلى لقاء وشيك سيجمع أردوغان والأسد. أظهر أردوغان عقب فوزه بولاية رئاسية أخيرة، مؤشرا قويا على التراجع عن تسريع وتيرة تطبيع العلاقات مع سوريا. حيث أكد المتحدث باسمه، إبراهيم كالين، أنه لا خطط للقاء بين أردوغان ونظيره السورى، فى المدى المنظور، لافتا إلى أن عقد هكذا لقاء، إنما يعتمد على الخطوات التى ستتخذها سوريا مستقبلا. فى السياق ذاته، أكد أردوغان، أن القوات التركية لن تنسحب من سوريا، حتى لا يهرع المزيد من السوريين إلى تركيا؛ خوفا من عودة حكم الأسد إلى الشمال الغربى السورى. وأنها ستواصل مكافحة التنظيمات الإرهابية. بدوره، حذر وزير الخارجية التركى، من أن يفضى انسحاب القوات التركية إلى تشجيع التنظيمات الإرهابية الكردية، التى تعتبرها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستانى فى سوريا، على التقدم لملء الفراغ الجيوسياسى. واعتبر وزير الدفاع التركى، خلوصى أكار، الوجود العسكرى التركى فى شمال سوريا، ضمانة لوحدة الأراضى السورية. وقال كالين إنه لولا العمليات العسكرية الثلاث، التى نفذتها تركيا فى شمال سوريا، لنشأت «دولة إرهابية» على الحدود. لافتا إلى ثلاث قضايا مركزية فى مسار تطبيع العلاقات مع سوريا؛ تتمثل فى: محاربة الإرهاب، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، على نحو متدرج، وآمن، وطوعى، وكريم، وفقا للقانون الدولى، واستمرار المفاوضات بين النظام والمعارضة، ودفع العملية السياسية وعمل اللجنة الدستورية إلى الأمام.
وفيما يخص العلاقات التركية المصرية، فربما تصدق فيها المقولة الخالدة، للورد البريطانى الشهير، بالمرستون، إبان القرن التاسع عشر، والتى غدت مبدأ راسخا من مبادئ العلاقات الدولية. ومؤداها «لا توجد فى السياسة صداقة دائمة، ولا عداوات دائمة، وإنما فقط مصالح دائمة». وبناء عليه، يتوقع أن تواصل أنقرة مساعيها لإذابة الجليد مع القاهرة، خصوصا بعد اتفاق الرئيسين، السيسى وأردوغان، عقب فوز الأخير بالانتخابات الرئاسية، على ترفيع العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى السفراء. لكن وبجريرة تمايزها وتباين مستويات تعقيدها، لن تمضى المسارات التصالحية فى الملفات الخلافية الأربع بين البلدين، على نفس الوتيرة. فربما تقدم أنقرة ترضيات مقبولة فى ملف الإخوان. وقد تتجاوب مرحليا فى ليبيا. غير أنها ستتردد فى بلورة تنازلات ملموسة فى شرق المتوسط، كما ستماطل فى تبنى مقاربات مقنعة إزاء سوريا والعراق.