سلامة البشر وتنظيم السير
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 5 يوليه 2025 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
أثار مصرع ثمانى عشرة فتاة فى عمر الزهور فى حادث سير مروع ومعهن سائق الحافلة التى كانت تقلهن إلى عملهن فى حقول العنب فى مركز منوف، لدى الرأى العام المصرى الحزن والأسى والغضب. الحزن شارك الرأى العام فيه أسر الفتيات وقريتهن على فقدهن وهن فى مقتبل أعمارهن. والأسى على اضطرار الفتيات، ومنهن الطالبات والتلميذات، إلى العمل لمساعدة أسرهن على تلبية احتياجاتها ولتتمكن هن من مواصلة الدراسة لولعهن بالعلم أو لعلها تعينهن على تحسين أحوالهن وأحوال أسرهن المعيشية.
لم يكن الحادث هو الأول وهو لن يكون، وللأسف، الأخير طالما استمر تنظيم، أو لا تنظيم، سير المركبات والمشاة على طرق مصر وفى شوارع مدنها على ما هو عليه. منذ أحد عشر عاما، فى أغسطس سنة 2014، نشرت نفس هذه الصفحة من «الشروق» الغراء مقالا لكاتب هذه السطور تحت عنوان «الدولة والمرور». ما ورد فى ذلك المقال ما زال وجيها، يصلح كرد فعل على حادث المنوفية الأليم.
• • •
كان طبيعيا أن يبحث الرأى العام عن جهة مسئولة وشخص مسئول عن وقوع الحادث ومصرع الفتيات. أصوات عديدة ألقت بالمسئولية على عاتق وزارة النقل ووزيرها، وربما كان ذلك لأن الهيئة العامة للطرق والكبارى، المسئولة عن سلامة الطرق فى مصر، هى هيئة تابعة للوزارة المذكورة. فى المقابل، أُعلن عن أنه ثبت تعاطى سائق الحافلة للمخدرات واعتُبِر أن أثر المخدر، علاوةً على السرعة الفائقة، هما المسئولان عن وقوع الحادث ومصرع الفتيات. مفهوم أن يكون البحث عن المسئولية عن هذا الحادث وحده همّ الأسر المكلومة.
غير أن المخدرات و«السرعة الفائقة» أصبحت كالاسطوانة المشروخة فى تفسير كل حادث يقع على طرق مصر. غضب الرأى العام يعنى أن التفسير لم يصبح مرضيا له، وهو محق فى ذلك. إلا أن إلقاء المسئولية عن هذا الحادث بالذات وحده على عاتق وزارة النقل قد لا يكون صائبا بدوره. لا بد من وضع الحادث فى إطاره الأوسع، وهذا الإطار هو الفوضى العارمة فى طرق مصر وشوارع مدنها التى لا بدّ أن تقع الحوادث فى ظلها. إذا كانت الفقرة السابقة قد ذكرت أن حادث فتيات المنوفية لن يكون الأخير، فهو بالفعل لم يكن، ففى الأيام التى تلت وقوعه تعددت الحوادث ومنها حادث راحت فتاة أخرى ضحية له فى محافظة سوهاج.
المسئولية التى يجب البحث عمن يتحملها ليست المسئولية عن وقوع هذا الحادث أو ذاك أو حتى عن الحوادث كلها، وإنما هى المسئولية عن معالجة الفوضى العارمة التى تعم سير المركبات والبشر فى مصر. الفوضى على الطرق وفى داخل المدن، ولا يمكن علاج هذه بدون تلك، والعكس صحيح.
• • •
لم تبق أى قاعدة للسير مذكورة فى قانون المرور يمكنك أن توقن باحترامها. القاعدة الأخيرة المحترمة إلى سنوات قليلة وهى سير المركبات على اليمين على الطرق السريعة وفى المحاور المرورية الرئيسية داخل القاهرة الكبرى التى يعرفها كاتب هذا المقال بدأت فى الانكسار، وهى انكسرت فعلا فى أنحاء كثيرة. السير عكس الاتجاه كسبب للحوادث على الطرق السريعة صار غير مدعاة للاندهاش. فى الشوارع داخل أحياء المدينة، لم يصبح مفاجأة أن تجد سيارة أو موتوسيكل أو «ميكروباص» يسير عكس الاتجاه. ليس من قبيل المبالغة توقع أن ما تشهده العاصمة ينطبق بالضرورة على ما عداها من مدن البلاد.
أما المشاة فى المدينة وخارجها فهم يعيشون مأساة ويفقد الكثيرون منهم يوميا أرواحهم بسببها. تصميم الطرق والشوارع لا يعبأ بالمشاة. تكاد تنعدم الآن المناطق الخلاء بين المدن أو القرى وبعضها البعض على طرق الوجه البحرى مثلا. البشر، كبارا وصغارا، يسيرون إلى أعمالهم أو حقولهم أو مدارسهم، ويعودون منها، دون ممرات يسيرون عليها أو يعبرون منها. هم يختلطون بالسيارات، يسيرون معها أو يعبرون بينها، فتقع الحوادث وتزهق الأرواح أو يصاب من يصاب. فى داخل المدينة يحدث شىء شبيه. الشوارع العريضة بين الأحياء وأحيانا فى داخل كل منها، كيلومترات فيها دون أماكن لعبور المشاة، فيضطر هؤلاء، شبابا وشيوخا، إلى المجازفة بسلامتهم والعبور بين السيارات فتسلم الجرة أحيانا ولا تسلم فى أحيان عديدة أخرى.
الأرصفة، إن لم تملأها الإشغالات صارت رمزية على أحسن تقدير فأصبح الناس يسيرون فى أنهار الشوارع بل وفى قلب ميادين القاهرة فى وسطها ذاته، يختلطون بالسيارات فى مشاهد مدهشة يصعب العثور على مثيلاتها فى مدن العالم، الكبيرة منها والصغيرة. ربما كان الهدف من التسهيل على المركبات، بالتغاضى عن وجود معابر للمشاة أو بتضييق الأرصفة، هو تحقيق سيولة السير أى المرور. إلا أن اختلاط المشاة بالمركبات أدى إلى عرقلة سير المركبات فى المدن حيث صار أغلبها يحسب حساب المشاة فالشوارع أصبحت لهم مثلما هى لها.
• • •
عليه، فليس سائق السيارة أو الحافلة وحده هو المسئول عن الحادث الذى يكون هو المرتكب المباشر له. من صمم الشارع أو الطريق، ومن تجاهل سير المشاة عليهما، ومن لم يعالج انتشار المخدرات، مسئولون معه إن لم يكن قبله. المسئولية مشتركة بين جهات كثيرة. وهذه المسئولية المشتركة ليست بدعة ولا هى تخص مصر وحدها. هذا ما حدا بمنظمة الصحة العالمية إلى الدعوة إلى أن تعتمد الدول استراتيجيات لسلامة الطرق وأن تخصص لها الموارد الكافية لتحقيق الغرض منها.
هذه الموارد يمكن أن تستقى من الضرائب على شراء السيارات والتأمين عليها والوقود المحرك لها وغيرها من الضرائب والرسوم. غير أن المنظمة لم تتوقف عند الاستراتيجية. هى ذهبت إلى الدعوة إلى حوكمة فعالة لسلامة الطرق تتعدى الاستراتيجية لتشمل التنسيق بين قطاعات الصحة والنقل والتخطيط العمرانى والشرطة وغيرها. بين غيرها هذه، يمكن أن نضيف المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ونقابة الصحفيين، ووزارة التعليم، والمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، وجمعية الهلال الأحمر ومنطمات أخرى للمجتمع المدنى. من الضرورى أن تشمل الجهود المركبة لعلاج الفوضى إجراءات للتوعية تضطلع بها وسائط الاتصال من تلفزيون وإذاعة وصحافة مكتوبة، والاستفادة من المدارس فى نشر الوعى المرورى بين التلميذات والتلاميذ.
تصميم الطرق والشوارع ينبغى أن يضطلع به مهندسون للطرق يطبقون معارفهم ويستمعون إلى احتياجات مستخدميها من سائقين للمركبات ومشاة. على المخططين العمرانيين أن يراعوا التناسب بين كثافة السكان والطرق والشوارع التى يسلكونها. إصدار رخص القيادة لا بدّ أن يسبقه دراسة لقواعد السير واختبارات جادة لإدراك المتقدمين للحصول على رخص لها.
المركز القومى للبحوث الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن يدرس مسألة تعاطى المخدرات وأن يقترح السبل لعلاجها. منظمات المجتمع المدنى يمكن أن تلعب أدوارا فى التوعية هى الأخرى وفى التدريب على مراعاة قواعد السير.
ضرورى أن تحدث متابعة مستمرة لتطبيق استراتيجية سلامة الطرق ولحوكمتها، وأن يجرى تقويمها بشكل دورى، وأن تجمع البيانات عنها وتعالج وتحلل والأهم أن تستخدم فى اتخاذ إجراءات جديدة أو فى تعديل الموجود منها أو حذفه بغية الارتقاء بمستوى سلامة الطرق ومعها سلامة البشر. الإعلان عن استراتيجية سلامة الطرق وعن حوكمتها الأشمل، ومتابعة تنفيذ ما يرد فيها من مصلحة الدولة فهو يكشف عن أنها تتخذ إجراءات ملموسة لحماية أرواح المواطنات والمواطنين، وأنها تشاركهم فيها وفى متابعتها. حماية الأرواح هى أولى وظائف الدولة.
• • •
فى أهداف التنمية المستدامة المعتمدة سنة 2015، الغاية 3.6 تنص على تخفيض عدد القتلى والمصابين من جراء حوادث الطرق بنسبة 50 فى المائة بحلول العام 2030. والغاية 11.2 تدعو إلى إنشاء أنظمة للنقل آمنة ومستدامة وفى متناول الجميع، خاصة الأفراد المهددين والنساء والأطفال والمعوقين وذلك بحلول العام 2030. مصر تقدمت بتقريرين إلى المنتدى السياسى رفيع المستوى، وهو جهاز فرعى تابع للجمعية العامة للأمم المتحدة، عن تقدمها فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة. لعل الدولة تكشف عما ورد فى التقريرين عن التقدم نحو تحقيق الغايتين المذكورتين. وإن لم يكن شىء قد ورد فى التقريرين عن الغايتين، فلا بدّ أن تعنى بهما التقارير القادمة.
سلامة البشر لن تتحقق إلا بتنظيم السير تنظيما جادا وفعالا. هذا التنظيم مسئولية تتحملها الدولة وتشترك فيها قطاعات متعددة فى الدولة. تنظيم السير ممكن إن انعقد العزم عليه ووقع الاختيار على جهة موثوقة للتنسيق بين القطاعات المسئولة عنه يمكن أن تكون معهد التخطيط القومى مثلا.
اقتصر هذا المقال على تنظيم السير من أجل الحفاظ على سلامة البشر، لأن مناسبة كتابته هى فاجعة فتيات المنوفية. غير أن لهذا التنظيم بعده الاقتصادى والتنموى أيضا وهو بعدٌ يحتاج إلى تفصيل يخصه.
أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة