«أحمد زويل».. زوال الجسد وخلود العلم
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 5 أغسطس 2016 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
- «ويذهب الإنسان بخيره وشره.. ولكن تبقى الأساطير».. (الحرافيش ــ نجيب محفوظ)
كانت وفاة أحمد زويل (لم يعد جثمانه بعد إلى مصر حتى كتابة هذه السطور) كاشفة لأزمة عميقة وعنيفة يعانيها المجتمع المصرى، لكنها تفاقمت واتسعت فى السنوات الأخيرة. أزمة كان أبرز مظاهرها ازدياد رقعة العنف اللفظى خاصة فى المواقف التى كان من النادر أن تشهد عنفا حتى بين أطراف متعادية أو خصوم باعدت بينهم البغضاء والقطيعة.
فى مشهد الموت، غياب إنسان كرمه الله بنعمة الحياة، خاصة لو كان شخصية عامة معروفة، لها ما لها وعليها ما عليها، كان المصريون ولأزمان طويلة يقدسون هذه اللحظة ويتعاملون معها باحترام ورهبة وهيبة. فإذا انتهت حياة هذا الإنسان بقيت سيرته شاهدة عليه، كانوا يدركون بحسهم الإنسانى العميق، أن الحقيقة لا تزول وأن الزمن كفيل برد كل شىء إلى موضعه إذا كان هناك ما يستحق الرد أو التعديل.
كل هذا تغير تماما، وحل محله سلوك آخر مغاير، انفتحت الشهية على آخرها لإصدار الأحكام وإبداء التقييم وإظهار القول فى أى شخصية أى ما كانت فور إعلان وفاتها، وهذا فى حد ذاته تطور ملحوظ ومطلوب، لكن بشروطه، فكيف يمكن لإنسان أن يسارع بتصنيف إنسان آخر فى خانة من الخانات لمجرد أنه يحبه بإطلاق أو يبغضه بإطلاق؟!
ربما كانت هذه المقدمة التى طالت قليلا، هى المدخل المناسب لرصد حدث وفاة العالم الكبير المرموق أحمد زويل عن سبعين عاما، وعما أحدثته هذه الوفاة من جدل وعراك على مواقع التواصل الاجتماعى ما زالت أصداؤه تتوالى حتى اللحظة!
مثلى مثل كثيرين غيرى، فى مصر وخارجها، فوجئنا بالخبر وأحزننا كثيرا وأوجع قلوبنا، أن تفقد مصر والإنسانية عالما كبيرا مشهودا له بالعبقرية والتفوق والنبوغ مثل أحمد زويل، عالم استطاع بجد ودأب وإرادة حديدية أن يصنع أسطورته الخاصة وأن يتغلب على ظرفه المقيد وأن يفتح لنفسه آفاقا استطاع بعدها أن يقدم لنفسه وللبشرية إسهامات رائعة أجمع علماء الدنيا على قيمتها وأهميتها وأثرها فى تطور العلم وارتقاء المعرفة بالعالم والكون الذى نحيا فيه.
إذن لا خلاف على قيمة وحضارية وأهمية ما قدمه زويل للعالم، والذى استحق عنه وبجدارة الظفر بأرقى وأكبر وأهم جائزة تمنح فى العلوم فرع الكيمياء (جائزة نوبل عام 1999، عن اختراعه لكاميرا التحليل الطيفى واستحداث وحدة قياس زمنى جديد هى «الفيمتو ثانية«). كل هذا رائع، كل هذا باعث للفخر والفرح والابتهاج، كل هذا ملهم وحافز وباعث لعشرات بل مئات من الباحثين الشباب فى أرجاء المعمورة، وخاصة فى مصر، لاستلهام النموذج وتطوير التجربة وملء الروح بطاقة إيجابية لتخطى المستحيل والظفر بنتيجة مستحقة لجهد متراكم ودأب متواصل لا ينقطع.
كل هذا رائع، فما الذى حدث؟ ما الذى جد وجعل هذا العنف اللفظى والاشتباك فى الرأى يندلع عقب وفاة الرجل على مواقع التواصل الاجتماعى؟ الحقيقة وبمحاولة بتحليل عشرات العينات من ردود الفعل والتعليقات المكتوبة فور إعلان نبأ الوفاة يبدو أن الشرخ العنيف الذى ضرب المصريين فى السنوات الخمس الأخيرة قد تعاظم وتضاعف ووصل إلى درجة غير مسبوقة من التطرف والعنف ضد الآخر، تجاه الرأى الآخر، تجاه كل ما لا يرى ما أرى، وبدا أن الناس منقسمون إلى كتلتين عظميين تتوسطهما جزيرة صغرى لا تكاد تبين بين هؤلاء وهؤلاء.
الإنسان أحيانا يخلق مشكلة وهمية يلوذ بها من مشكلة راهنة يشق عليه فضها ومعالجتها، وعندما تتعقد أمامه الأمور ولا يجد متنفسا ولا مجالا للتغلب على هذه الأزمات، يلجأ إلى افتعال أزمات ومشكلات أخرى وهمية، ينخرط فى عراكات ومشاجرات لا داعى لها بغرض الهروب من مواجهة الذات واكتمال الأدوات فى النظر إلى المشكلات الحقيقية والمعوقات التى تجثم بثقلها على واقعه وحياته.
المجموعة الأولى فى أقصى اليمين، والمجموعة الثانية فى أقصى اليسار، وفى كليهما تطرف ظاهر وراسخ فى الحكم، عدم قبول أى درجة من درجات الاختلاف حول هذا الحكم، اجتزائية المشهد واختزال المواقف فى أمر محدد أو حدث بعينه وإهمال النظر تماما فى كلية وشمولية السيرة التى يعاينونها أو الشخص الذى يحكمون عليه أو الحدث الذى يترصدونه!
هذا ما حدث بالضبط فى حالة أحمد زويل، من أراد أن يراه إلها معظما، رآه كذلك، ولم يقبل كلمة واحدة ولو على سبيل التحليل والتقييم الموضوعى لبعض آرائه ومواقفه السياسية وسلوكياته الشخصية (وهو بالتأكيد محل خلاف اختلاف). ومن أراد أن يراه شيطانا رجيما، خائنا عميلا، رآه كذلك، ودلل عليه، بحسب وجهة نظره، بموقف عابر منزوع من سياقه، أو حديث أو رأى مجتزأ من موضعه، أو اعتساف جهول فى تأويل قول أو فعل أو حدث، مع اختزال كامل لجوانب الرجل المختلفة فى هذه الجزئية أو تلك، ومن ثمّ يمتلك أنصار هذا الفريق الحق فى إصدار الحكم وغير مقبول لا نقض ولا استئناف ولا طعن!
وبين الفريقين يتوسطهما أفراد يحاولون أن ينتمون إلى فئة الإنسان الحر الذى يسعد بالوعى حتى وإن أبصر بقوة أكثر مأساة الحياة الخافية، هؤلاء طوبى لهم، لأنهم يدركون حجم المأساة، وعنف اللحظة، هؤلاء الذين يحاولون النجاة بأنفسهم من جحيم التطرف وغلواء الثورة العمياء بلا مبرر ولا هدف ولا ضابط ولا رابط، هؤلاء الذين يحاولون أن يقرأوا يفهمون ولا يكتفون بالسماع والتلقى وترديد ما يردد وكان الله بالسر عليم!
فى فترات الانهيار الاجتماعى وتغير القيم يفقد الإنسان الثقة فى كل ما حوله، هذا مفهوم وطبيعى، نحن الآن نحيا هذه الفترة بكل صخبها وعنفها وتوتراتها المزعجة. لكن لا بأس، لا بد أن نقطع هذا الشوط ونتجاوزه لنصل إلى ما قطعته البشرية قبلنا بقرون.
أتصور، وليس كل ما نتصور إثما، أن أحمد زويل، بما قدمه وأنجزه، قد خلد اسمه فى تاريخ البشرية، شئنا أم أبينا، صار ملكا خالصا لها وللعلم، من المستحيل حصره وقصره فى فئة جنسية أو قومية أو ديانة، تجاوز ما قدمه كل هذا، وأما مواقفه وآراؤه فكلها مما يصلح بل يجب فيه الاختلاف وإبداء الرأى والتعقل فى التفسير والتأويل المنضبط بشروطه الموضوعية، دون إغفال أن آفة الرأى الهوى، وأن الحياة (كما قال العظيم نجيب محفوظ) واجب إنسانى عامّ تتلخص فى الثورة الأبدية (فكرا وعلما وعملا) ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل الدائب على تحقيق إرادة الحياة ممثلّة فى تطورها، والانحياز الدائم إلى تطورها وعماد هذا التطور هو العلم وحده.
رحم الله الدكتور أحمد زويل وأسكنه فسيح جناته..