الاغتيالات الإسرائيلية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 5 أغسطس 2024 - 7:10 م
بتوقيت القاهرة
يُعرَف أكاديميون سياسة الاغتيالات، التى اصطلح على تسميتها قانونيا «عمليات القتل المستهدف»، بأنها «الاستخدام المتعمد والمخطط له مسبقا، من قبل دولة أو جماعة مسلحة، ضد فرد بعينه، خارج نطاق الاحتجاز المادى». ويؤكد خبراء إسرائيليون أنها كانت تكتيكا أصيلا لدى الحركة الصهيونية قبل إعلان دولة الاحتلال، ثم غدت ركنا ركينا فى استراتيجيتها بعد العام 1948. وفى كتابه الصادر عام 2018، بعنوان «انهض واقتل أولا: التاريخ السرى للاغتيالات المستهدفة فى إسرائيل»، يقر الباحث الإسرائيلى، أهارون بيرجمان، بأن إسرائيل ضربت رقما قياسيا عالميا فى ممارسة الاغتيالات، أو عمليات القتل المستهدف، منذ الحرب العالمية الثانية؛ غير مبالية بتعريض حياة مدنيين كثر للخطر». وفى سفره المعنون: «القتل المستهدف فى القانون الدولى»، الصادر عام 2008، يذكر الخبير القانونى، نيلس ميلزر، أن إسرائيل كانت الدولة الأولى على مستوى العالم، التى تعترف فى العام 2000، بممارسة سياسة القتل المستهدف، قبل أن تشرعنها وتقننها، محليا، عام 2002.
مآرب شتى، تنشدها إسرائيل من وراء سياسة الاغتيالات. أبرزها: استعادة الردع التكتيكى المتهاوى حيال فصائل المقاومة. وذلك عبر إضعافها وحرمانها من كوادرها، التى تمتلك قدرات ومهارات تراكمت بمرور الزمن، ويصعب على سواهم اكتسابها بسرعة ويسر. وتأمل إسرائيل أن يؤدى الفراغ القيادى داخل تلك الفصائل، إلى إحداث تصدعات فى بنيانها. وفى مسعى منها لاستثمار حادث مجدل شمس، استراتيجيا، طرحت إسرائيل فكرة تطبيق القرار الأممى 1701، الذى يقضى بانسحاب حزب الله عشرة كيلومترات شمال نهر الليطانى، كشرط لتقليص مستوى ردها الانتقامى، بما يجنب المنطقة والعالم، أهوال حرب إقليمية محتملة. حيث تتوق حكومة نتنياهو إلى تحقيق انتصار سياسى داخلى، يعزز فرصها فى البقاء، عبر استعادة الردع المسلوب، الاحتفاظ بما تبقى من الكبرياء العسكرى الإسرائيلى، وإعادة ثمانين ألف مستوطن إلى مساكنهم بالجليل الأعلى، بعدما اضطرتهم الأجواء غير الآمنة فى الشمال إلى النزوح الداخلى.
يعتقد خبراء إسرائيليون أن سياسة الاغتيالات قد آتت أكلها، نسبيا، مع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، لاسيما حركة فتح. من خلال تصفية قيادات عسكرية متشددة عقائديا، مقابل استبقاء أخرى براجماتية. فلقد عمدت الأخيرة إلى التخلى عن الكفاح المسلح واعتماد مقاربة سياسية إزاءإسرائيل. واليوم، يحاول نتنياهو اتباع ذات النهج مع حماس، الجهاد وحزب الله. لكن شكوكا عديدة تحيط بفرص نجاعة هكذا نهج. ذلك أن فصائل المقاومة الإسلامية تعتنق مبادئ عقائدية وسياسية، تغذى نفورها من الحلول السلمية. كما تحظى بدعم قوى من أطراف إقليمية، وتتمتع بهياكل تنظيمية مرنة وثراء بشرى، يخولها تعويض قياداتها المفقودة بسرعة. فبالنسبة إلى تنظيمات المقاومة الإسلامية، تصطبغ القضية الفلسطينية بصبغة عقائدية، تلامس قدسية الصراع بين المسلمين واليهود. كما أن الأدبيات اليهودية، التى أفصح عنها وزراء بحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، تعزز سردية الصراع العقائدى على فرضية المواجهة السياسية.
يراهن نتنياهو على مآلات ما يظنه سجالا سياسيا داخل حماس بين تيارين، أحدهما إخوانى سنى والآخر إيرانى شيعى. حيث يأمل أن يفضى تزامن اغتيال قيادات حماس مع تدمير العدوان الإسرائيلى الخامس على غزة، جل قدرات الحركة إلى حملها على إبداء مرونة. خصوصا بعد تعاظم خسائرها، تشبثها بانتزاع دور مستقبلى فى إدارة غزة بعد الحرب، توقيعها على «إعلان بكين» للمصالحة، وموافقتها المبدئية على مبادرة بايدن لوقف إطلاق النار.
ترميم شعبية نتنياهو، حيث تشى مؤشرات شتى بتنامى شعبية نتنياهو عقب عمليات الاغتيال الأخيرة. فبعدما وجه ضربات موجعة ومتتالية للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، علاوة على قوات الحشد الشعبى العراقية؛ أظهرت نتائج استطلاع رأى نشرته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، تأييد 69% من الإسرائيليين لتلك الاغتيالات، حتى لو أعاقت التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بغزة. ويتباهى نتنياهو بتنفيذ تهديداته بتصفية قيادات المقاومة، وتأكيد الاختراق الإسرائيلى لإيران؛ مرجعا الفضل لسياسته الحاذقة، المتمثلة فى مواصلة الضغط العسكرى، ورفض توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بغزة، يضطره إلى تقديم تنازلات. والآن واتته الفرصة ليصف نفسه بأنه الشخص الوحيد القادر على تحقيق الأمن للإسرائيليين، عبر ملاحقة خصومهم على جبهات متعددة.
التشكيك فى هشاشة المنظومة الأمنية الإيرانية، إذ تكاد تجمع الدوائر الاستخباراتية الدولية على نجاح إسرائيل فى اختراق تلك المنظومة، عبر آليتين. أولاهما، تجنيد عناصر بشرية إيرانية داخل أجهزة الدولة المدنية والعسكرية. وتعتبر دوائر إسرائيلية أن نجاح عملية اغتيال هنية فى قلب طهران يعد أبلغ رد على تفاخر وزير الاستخبارات الإيرانى المنتهية ولايته إسماعيل خطيب بتفكيك شبكة «الموساد» داخل بلاده. فلطالما طالبت صحيفة «جمهورى إسلامى» المحافظة بتنظيف شامل للمنظومة الأمنية الإيرانية من الخونة والعملاء. أما الآلية الثانية، فتتجلى فى استثمار إسرائيل علاقاتها مع احدى دول جوار ايران لإقامة محطات استخباراتية وأمنية للتجسس على إيران وتنفيذ عمليات سرية داخلها. حيث كشف عملاء للموساد أن هذه الدولة التى تبعد حدودها 300 ميل عن طهران، تستضيف قاعدة لعملاء «الموساد»، حتى أضحت «نقطة الصفر للعمل الاستخباراتى» الإسرائيلى ضد إيران. ففى مقابل تلقيها أسلحة إسرائيلية، سمحت للموساد، بإنشاء فرع عمليات متقدم، مع تزويده بأجهزة تنصت وتتبع إلكترونية، لمراقبة أنشطة إيران واحتوائها استراتيجيا.
تأكيد الدعم الأمريكى لإسرائيل: بعدما حملت حزب الله مسئولية الهجوم الصاروخى على هضبة الجولان السورية المحتلة جدّدت إدارة بايدن «دعمها الراسخ» لإسرائيل، التى أكدت حقها فى الدفاع عن نفسها بمواجهة حزب الله، مثلما تفعل ضد حماس فى غزة. وأعلنت واشنطن عزمها إعادة نشر قواتها فى الشرق الأوسط، بهدف زيادة الدعم للدفاع عن إسرائيل، وضمان الاستعداد الدائم للردّ على مختلف الحالات الطارئة. وبينما تمت عملية الضاحية بالتنسيق بين واشنطن وتل أبيب، حيث باركتها إدارة بايدن، وأحاطتها بالدعم الاستخباراتى واللوجيستى؛ طالب آموس هوكشتاين، كبير مستشارى بايدن الإسرائيليين بتجنب التصعيد الشامل وغير المنضبط، وتقليل الخسائر فى صفوف المدنيين. حيث تتحسب واشنطن لارتدادات أى تصعيد، خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط والذهب عالميا، جراء الاضطربات الجيوسياسية فى المنطقة.
وفقا لخبراء استراتيجيين إسرائيليين، يظل نجاح عمليات الاغتيال محض إنجاز استخباراتى تكتيكى لا يضاهى الانتصار الاستراتيجى. حيث يقيس جل الإسرائيليين الأمر بمدى تأثير تلك العمليات على مجريات الأداء العسكرى الميدانى، جهود استعادة الأسرى، عودة النازحين الإسرائيليين، دحر المقاومة، فضلا عن عدم تسببها فى ردود انتقامية موجعة للإسرائيليين. فخلافا للمجتمعات العربية وبيئات المقاومة يعانى المجتمع الإسرائيلى نقصا فى المناعة الاستراتيجية، وقابلية للتأثر بأية ضربات مضادة.
رغم وقعها الأليم على المقاومة، لن يكون بمقدور الاغتيالات كسر شوكة المقاومة، بالمستوى الذى يتوقعه إسرائيليون كثر، بقدرما قد تؤجج حماستها. فتاريخيا، لم يؤد اغتيال عباس الموسوى، أمين عام حزب الله، عام 1992، إلى انهيار الحزب، أو تقويض دائرة صنع القرار داخله؛ بقدر ما مهد لصعود القائد الشاب، آنذاك، حسن نصر الله. كما انتقم الحزب عبر تفجير مبنى السفارة الإسرائيلية بالعاصمة الأرجنتينية، ما تمخض عن مقتل 29 شخصا، أعقبه تفجير مبنى للجالية اليهودية هناك، أسفر عن مقتل 85 آخرين. وغير بعيد، لم يسفر اغتيال يحيى عياش عام 1996 عن تحطيم القدرات العسكرية لكتائب «القسام»، الجناح العسكرى لحركة حماس. فلقد تحول الرجل إلى أيقونة للمقاومة الفلسطينية. وتمكنت «القسام» من تطوير قدراتها الأمنية والعسكرية، حتى انتقمت لتصفيته بعد شهرين، عبر تنفيذ أربعة تفجيرات، أسفرت عن مقتل 60 إسرائيليا وإصابة المئات.
يكمن الأدهى والأمر من كل ما سبق فى عدم ثقة غالبية الإسرائيليين بأن الاغتيالات قد تفضى بالضرورة إلى استعادة أمنهم المفقود، استرجاع أسراهم، أوإعادة نازحيهم إلى مستوطناتهم.