«هلاوس» تجريبية

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الإثنين 5 سبتمبر 2022 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

كتب الشاعر والممثل الإنجليزى الأشهر وليم شكسبير رائعته المسرحية «تاجر البندقية»، فى نهاية القرن السادس عشر( نشرت فى كتاب عام 1600) وهى الرواية التى تستدعى إلى ذهن القارئ على الفور قصة المرابى اليهودى «شايلوك» الذى أراد اقتطاع رطل من لحم التاجر الإيطالى «أنطونيو» وفاء لدين اقترضه الأخير لمساعدة صديقه بسانيو على الزواج من بورشيا الثرية ابنة مدينة بلمونت، قبل أن يقف الجميع أمام المحكمة التى تضع الجشع والطمع ومشاعر الانتقام التى تغلب على النفوس غير السوية فى قفص الاتهام.
النص منذ أن كتبه شكسبير، ومثلته فرقته المسرحية فى ذلك الزمان البعيد، عرضته مئات المسارح، برؤى فنية متباينة وبلغات عدة، كما أن جوهر رسالته حول «الظلم والعدل، الخير والشر، الحب والكره، والوفاء والخيانة» وغيرها من قيم وفضائل ومعايير أخلاقية تحكم علاقات الناس، جرى استيحاؤه فى الكثير من الأعمال، شعرا ونثرا، وهو لا يزال، حتى الآن، نصا مسرحيا يثير الخيال والإلهام وسط المبدعين والفنانين على اختلاف شعوبهم.
«تاجر البندقية» التى دارت وقائعها فى المدينة الإيطالية الشهيرة، انتقلت بكامل تفاصيلها لتعرض، قبل أيام، على مسرح الهناجر ضمن مهرجان المسرح التجريبى فى دورته التاسعة والعشرين، لكنها حملت عنوانا حررها من النص الأصلى وتعقيداته لتتحول إلى «هلاوس» مؤلف ومخرج يعدل ويبدل فى الشخوص والأحداث على هواه، رغبة فى تقديم رؤية عصرية تجريبية لمسرحية كلاسيكية بنص شكسبيرى محفوظ عن ظهر قلب فى عالم المسرح.
وعلى مدى ساعة كاملة وفى أجواء مسرح مغاير، عرضا ومتلقيا، تابعت «هلاوس» المخرج محمد عبدالله، وفريق عمله من الفنانين، وغالبيتهم من الشباب، وهذا أجمل ما فى العمل، لنخرج عن الإطار التقليدى لأعمال مسرحية اعتادها الجمهور، فقد حان الوقت لتقديم أذواق مختلفة للفنون، بما يفتح آفاقا أرحب على التجارب المسرحية الجديدة، وهذا فى حقيقة الأمر المهمة الأبرز للتجريب الذى يجب ألا تحده وتكبله القوالب المتعارف عليها والمستقرة منذ عشرات السنين.
بديكور مسرح داخل المسرح، أعادتنى «هلاوس» إلى متابعة مهرجان المسرح التجريبى الذى حالت الأيام دون حضوره بانتظام، ورغم استحضارى النص الشكسبيرى الشهير، سرحت بخيالى فى محطات عدة، ونسيت للحظات أننى أتابع عملا مسرحيا، حتى ولو كان تجريبيا، متأملا فى العلاقات الإنسانية، والقيم والأفكار التى تحكم هذا العالم، بخيره وشره، بفقره وغناه، وصراعاته التى تخلق أزمات اقتصادية، سرعان ما تكون سببا ونتيجة فى صراعات جديدة تزيد من تعاسة البشر.
«هلاوس» التى فجرت هلاوسى فى النظرة للحياة بكل تناقضاتها من إنتاج مركز الهناجر للفنون، تشارك ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان المسرح التجريبى، وقدمت لنا عبر عرض إيمائى صامت «مايم»، جيلا جديدا من المسرحيين الشباب الذين فوجئت بقدرتهم على إثارة الابتسامة حينا والضحك أحيانا، والتعبير من غير «كلام»، اعتمادا على لغة الجسد، عن أفكار ورؤى مركبة، ومشاعر إنسانية معقدة تمتزج فيها الأفراح بالأتراح.
وأمام عمل يستحق الحفاوة، رغم بعض الهنات، كالهمهمات غير المفهومة، والأصوات غير المطلوبة فى عرض كان يجب أن يكون «صامتا» على طول الوقت، أكتفى بذكر بعض أبطاله وصناعه (لضيق المساحة) وهم: عبدالله سلطان، عمر عز، وعبدالرحمن القاضى، ونهال فهمى ومعتصم شعبان، وجورج فوزى، ومصطفى حزين، وريم عصام ومارسيل ميشيل، و(تصميم إضاءة) أبوبكر الشريف، وملابس أميرة صابر وعبالرحمن القاضى، وإكسسوارهاجر كمال، والمخرج المنفذ أحمد رضا.
وفى الأخير، وقياسا على أن التجريب حركة تهدف بشكل أساسى إلى خلق أشكال عرض وكتابة مختلفة عن جميع القواعد المسرحية السائدة، حاول المخرج محمد عبدالله فى «هلاوس» إلقاء دلوه فى بئر التجريب السحيقة ليخرج لنا ماء عذبا وسط صحراء مسرحية شبه جرداء، يحاول البعض حاليا استصلاح ما يمكن زراعته منها، علنا نخرج حبا ونباتا، وقضبا وعنبا، كى تخضر حياتنا من جديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved