هل حان الوقت؟
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 5 أكتوبر 2019 - 8:45 م
بتوقيت القاهرة
الإصلاح طال انتظاره، فهل جاء الوقت؟ الحقيقة أن التاريخ هو مختبر السياسة، هكذا تعلمنا على يد أساتذتنا فى قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة. والخبرات التاريخية البعيدة والقريبة تقول إن الإصلاحات السياسية هى ضرورة «وطنية» لكل الدول القومية.
قد تختلف التوقيتات والظروف والمحتوى، ولكن يظل الإصلاح من حتميات العمل السياسى لأنه وبحسب نظريات الرشادة التقليدية فى العلوم السياسية يحقق مصلحة الجميع بدلا من المعادلات الصفرية التى تنتهى بفوز أحدهم بالضربة القاضية وهزيمة خصمه للأبد! الحقيقة أن التاريخ يقول أيضا إنه حتى المعادلات الصفرية عليها قيود، فلا يوجد انتصار للأبد ولا هزيمة للأبد، المهزوم اليوم قد ينتصر غدا والمنتصر اليوم قد ينهزم غدا، وحتى نبعد عن دوامة الانتقامات المتبادلة لابد وأن نؤمن جميعا أن الإصلاح فيه مصلحة الجميع.
خلال الأسابيع القليلة الماضية كان واضحا أن هناك تغيرات فى المشهد السياسى المصرى المتيبس منذ فترة، فللمرة الأولى تقرر الحكومة وبتوجيهات مباشرة من رئاسة الجمهورية إعادة مئات الآلاف إلى بطاقات التموين من أجل تخفيف بعض الأعباء على الطبقات المتوسطة وما دونها التى عانت كثيرا من تبعات الإصلاح الاقتصادى منذ توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولى عام ٢٠١٦. يعد هذا القرار مهما لأنه يعنى أن هناك من شعر وفهم أن هناك معاناة حقيقية ولدت غضبا وكبتا مكتوما وأن تصحيح بعض القرارات أو السياسات ليس دليلا على الضعف ولكنه دليل على الحكمة التى ولابد أن تكون سيدة الموقف فى هذه الظروف الصعبة.
خلال الأيام القليلة الماضية ظهر خطاب سياسى جديد فى الفضاء الإعلامى المصرى وطالب العديد من الإعلاميين والسياسيين ونواب الشعب بالإصلاح وعدم تخوين المعارضة والتفريق بين المعارضة والإرهاب لأن الخلط بينهما هو باختصار مكسب للإرهابيين وليس للوطن. عدد كبير من أصحاب هذا الخطاب الجديد كان يتبع خطابا مختلفا تماما قبل أسابيع قليلة، مما جعل البعض ــ ومنهم كاتب هذه السطور ــ يستقبل هذا الكلام بحذر لا يخلو من تمنى أن يكون الحديث عن الإصلاح هو بالفعل إرادة سياسية جديدة وليس مجرد وسيلة لامتصاص الغضب!
***
منذ عام ٢٠١٤ ونحن نسمع بشكل دائم عن أن «الإصلاح مسألة وقت» قالها إعلاميون ونواب وسياسيون ومثقفون وأكاديميون، وانتظرنا كثيرا هذا الإصلاح ولكن طال الوقت دون رؤية أى ترجمة لذلك على الأرض، مما جعل البعض ييأس تماما من مسألة الإصلاح ويتهم من يقولها بكسب الوقت واستغفال الناس!
فى مقال قديم كتبه الكاتب والصديق جمال أبو الحسن فى «المصرى اليوم» بعنوان «هل نريدها دولة كبيرة أم صغيرة؟» نشر بتاريخ ١١ سبتمبر ٢٠١٦، أظهر فيه التناقض الذى تقع فيه بعض القوى السياسية التى تريد مصر «دولة صغيرة / كبيرة»، أى دولة صغيرة من حيث أن تمتنع عن التدخل فى الشأن العام (المظاهرات، الإعلام، الاقتصاد...إلخ)، ودولة كبيرة من حيث أنها تتكفل بعلاج المواطنين وتوفير الوظائف والتعليم المجانى. إلخ، ليخلص الصديق العزيز إلى أنه:
«مواردنا أقل كثيرا من أوروبا وإنتاجنا وتصديرنا أدنى بما لا يقارن. مع ذلك نطالب دولتنا أن تتصرف كحكومة كبيرة لها موارد غير محدودة. المطالبات والانتقادات تنهمر على الدولة المصرية من كل الاتجاهات. يريدها البعض «دولة عملاقة» من حيث الرعاية الاقتصادية التى توفرها، و«دولة قزما» من حيث تدخلها فى الشأن السياسى. قد يكون هذا ممكنا فى التجربة الأوروبية (وإن كانت مثالبه وتناقضاته تتكشف يوما بعد يوم)، ولكنه المستحيل بعينه فى السياق المصرى».
والحقيقة أن الملاحظة صحيحة، لكن لابد وحتى تكتمل الصورة أن نراها من الزاوية العكسية أيضا، فالمفارقة هنا أن الدولة (ممثلة فى مسئوليها الرسميين)، تريد نفس الأمر ولكن معكوسا، فهى تريد أن تكون دولة عملاقة سياسيا، فتسيطر تماما على الشأن العام والسياسى، بينما أن تكون دولة صغيرة اقتصاديا واجتماعيا، أى أن تنسحب من مساحات الدعم والتوظيف.. إلخ.
ولحل هذه المعادلة المقلوبة بين القوى السياسية المستقلة والمعارضة وبين الدولة، فلابد أن نصحح وضعها، فإما أن تكون مصر دولة محدودة التدخل سياسيا واقتصاديا فتنسحب من مساحات الدعم والتوظيف وكذلك من مساحة الأحزاب والبرلمان فتكون الأخيرة تعددية تماما وتكتفى مصر بلعب دور «الدولة المنظم» أى الدولة التى تضع القوانين والتشريعات وتتأكد من تنفيذها بدقة وتكون عن طريق سلطتها القضائية «حكما بين السلطات وبين السلطات وبين المواطنين» أو أن تكون دولة متدخلة سياسيا واقتصاديا، بمعنى أنها تحتكر المساحتين السياسية والاقتصادية معا، فتتدخل لضبط الشأن العام ولكن حينها ستكون أيضا مطالبة بتقديم الخدمات العامة من صحة وتعليم وتوظيف ودعم!
بعبارة أخرى ففى عهد عبدالناصر مثلا اختارت الدولة أن تكون كبيرة سياسيا واقتصاديا، فكما أنها احتكرت المساحة السياسية عن طريق التنظيم السياسى الواحد وإعلام الصوت الواحد، فقد تكفلت أيضا بعلاج المواطنين وتعليمهم وتوظيفهم، لكن مع نهاية عهد السادات وحتى الآن فبدأت الدولة تنسحب تدريجيا من مساحات الدعم والتوظيف ولكنها أصرت على احتكار المساحة السياسية وهو وضع مغلوط وأعتقد أن الأوان قد حان لتعديله!
***
أتمنى أن تكون هناك إرادة سياسية جادة للإصلاح، للنظر مرة أخرى فى شأن المحبوسين من غير المتهمين بقضايا العنف والإرهاب، فلا يمكن أن نجد بعض أساتذة وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات موضوعين فى نفس سلة المجرمين والإرهابيين لرؤية طرحوها أو بسبب قناة تحدثوا إليها! أن يكون الإعلام أكثر انفتاحا على المعارضين والمستقلين ولا يخونهم أو يشوههم كما حدث خلال المدة الماضية، أن يعطى النظام الأمن لمئات وربما آلاف المصريين الذين يعيشون فى الخارج فى منفى اختيارى أو إجبارى ويخافون من زيارة مصر، طالما أنهم لم يحرضوا على العنف أو الإرهاب، أن يدقق المسئولون فى استخدام مفردات مثل «مؤامرة»، «خونة»، «الإرهاب».. إلخ لأن الإسهاب فى استخدام هذه المفردات فضلا عن تسييسها يؤدى إلى جو من الترهيب مصحوب باستغلال البعض لهذه المفردات فقط من أجل تصفية حسابات سياسية متعلقة بمصالحهم الشخصية وليس بمصالح الوطن، أن تعود صفحات الرأى والفكر فى الصحف القومية والمستقلة لسابق عهدها فيكتب فيها جيش المثقفين والسياسيين والباحثين الذين تذخر مصر بهم، بحرية لفتح آفاق أوسع وتقديم رؤية مختلفة من خلال حوار وطنى جاد وصادق لمستقبل مصر، أن تفتح الدولة حوارا مع خبراء الاقتصاد والتنمية للحوار وللنقاش حول أولويات التنمية والإنفاق العام خلال الفترة القادمة، أن يعاد النظر فى قوانين انتخاب مجلسى الشعب والشيوخ والمحليات ليكون أكثر تعبيرا عن كل مكونات الطيف السياسى الوطنى المصرى فيشعر المواطنون أن هناك من يمثلهم ويعبر عنهم بالفعل. أتمنى من كل قلبى أن يكون هذا هو وقت الإصلاح المنتظر!
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.