شيفرة إدريس
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الثلاثاء 5 أكتوبر 2021 - 1:00 ص
بتوقيت القاهرة
قبل قرابة عشرين عاما خلت، اصطدمت الأوساط الثقافية والدينية حول العالم بسردية «شيفرة دافينشى»، بوصفها عنوانا لعمل أدبى بوليسى خيالى، أبدعه المؤلف الأمريكى الشهير، دان براون، عام 2003. وقد حققت الرواية، التى لم ينقصها التشويق والغموض، مبيعات هائلة تجاوزت 60.5 مليون نسخة، كما تُرجمت إلى 56 لغة، حتى تصدرت قائمة الروايات الأكثر مبيعا، وفقا لتقويم صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية.
وما هى إلا سنوات ثلاث، حتى أقدمت شركة «كولومبيا بيكتشورس» للإنتاج الفنى، على تحويل الرواية المثيرة للجدل، إلى فيلم سينمائى أشد إثارة، حمل ذات العنوان، وجسد بطولته توم هانكس، وأودرى تاتو، فيما أخرجه رون هاوارد، وعُرض لأول مرة على الشاشة الفضية، فى افتتاح مهرجان «كان» السينمائى الدولى عام 2006. وأذكر أنى عايشت شيئا من السجال المعرفى الذى أشعله فى أروقة الفكر الأوروبية، حينما أتاح لى وجودى فى الدنمارك، وقتئذ، فرصة مشاهدة الفيلم، بعدها بأسابيع، فى إحدى دور العرض السينمائى بالعاصمة كوبنهاجن.
من فانتازيا «شيفرة دافنشى»، عرج المصريون، ومن ورائهم العالم قاطبة، إلى واقعية وعبقرية «شيفرة إدريس»، التى لم يحيطوا بها علما قبل العام 2017. فقبل انقضاء الشهر الفائت، ومع حلول الذكرى السادسة والأربعين لانتصار أكتوبر العظيم، وعن عمر يناهز 84 عاما، توفى وورى الثرى، بمحل إقامته فى الإسكندرية، المساعد أحمد إدريس، صاحب فكرة استخدام اللهجة النوبية، كشيفرة سرية للقوات المسلحة المصرية إبان حرب العام 1973. رحل إدريس بعدما أفنى زهرة شبابه مقاتلا بالقوات المسلحة، التى تطوع للعمل بها، منذ ترك مسقط رأسه بقرية توماس عافية، مركز نصر النوبة، بمحافظة أسوان، لينتقل إلى القاهرة، وهو فى سن السابعة عشرة، ثم يلتحق بقوات حرس الحدود عام 1954، ويشارك، تحت لوائها، فى جميع الحروب، التى خاضتها مصر منذ ذلك التاريخ، وصولا إلى حرب أكتوبر المجيدة، حتى ترجل الفارس وتقاعد عام 1994.
من رحم الاستعداد لحرب الكرامة وتطهير الأرض من دنس العدو الغاصب، انبلج الدور النوعى للمقاتل، إدريس، فى التصدى لإحدى أبرز المعضلات التى واجهت جيوشنا أثناء حرب الاستنزاف، والمتمثلة فى قابلية اتصالاتها اللاسلكية للاعتراض، وتعرض مراسلاتها وإشاراتها المشفرة لفك رموزها، من قبل العدو. فمنذ مطلع سبعينيات القرن الماضى، أضحت جل الرسائل والإشارات التى كانت تتناقلها القيادة المركزية مع باقى القيادات الفرعية للقوات المسلحة، عرضة للاختراق المتواصل، والتعرف على محتوياتها من جانب مخابرات العدو، التى تجيد اللغة العربية، وتستعين بأحدث التقنيات الإليكترونية فى مجال التجسس والشوشرة، وقتئذ، والتى أغدقها عليها حلفاؤها وأصدقاؤها حول العالم فى سياق مساعداتهم وهباتم العسكرية السخية، التى لا تنقطع. الأمر الذى اضطر القوات المصرية لوقف بث إشاراتها ورسائلها على مدى أسبوع كامل. وبعيد أشهر معدودات من توليه قيادة البلاد، عقب وفاة الرئيس عبدالناصر فى سبتمبر عام 1970، انبرى الرئيس السادات، فى التماس السبل الكفيلة بإعداد شيفرة سرية جديدة، تستعصى على الاكتشاف، من أجل استعادة التواصل الآمن عبر اللاسلكى بين مركز العمليات، والقيادات الميدانية لقواتنا المسلحة، من دون أن يتمكن العدو ومعاونوه من التعرف عليها وفك رموزها.
هنالك، تقدم الرقيب، يومئذ، بسلاح حرس الحدود، أحمد إدريس، بمقترحه إلى قائده المباشر، بشأن إمكانية استخدام اللهجة النوبية كشيفرة سرية للتواصل داخل القوات المسلحة، بحيث يتم إرسال واستقبال المعلومات والتوجيهات من خلالها، على أن يعاد تدوينها باللغة العربية لفهمها وتنفيذ محتوياتها، بأعلى مستويات السرية والأمان. وقد استند إدريس فى مقترحه الخارق، على طائفة من المسوغات المنطقية، أبرزها: أن النوبية لهجة محلية، غير شائعة الاستخدام، كما أنها شفاهية وليس لها أحرف أبجدية تكتب من خلالها، كونها تُنطق ولا تُكتب، مما يجعلها عصية على الاكتشاف أو التأويل من قبل العدو.
بمجرد إبلاغ رئيس أركان حرب القوات المسلحة ذلك المقترح المذهل للرئيس السادات، سارع الأخير باستدعاء الرقيب إدريس، واستمع إليه، حتى قرر اعتماد فكرته، تحت أجنحة السرية المطلقة والتكتم الشديد. وعلى الفور، أمر السادات بنشر 344 نوبيا من الجنود وضباط الصف، مع مختلف قيادات القوات المسلحة، كيما يضطلعوا بمهام إعداد وإرسال واستقبال وتفسير الإشارات بالشيفرة الجديدة. ومع حلول العام 1971، كان المقاتلون النوبيون المكلفون بالمهمة السرية الدقيقة قد اتخذوا مواقعهم الاستراتيجية خلف خطوط العدو فى سيناء، وطفقوا يباشرون عملهم بكفاءة واقتدار، حتى دقت ساعة العبور العظيم. وكان من أشهر الكلمات التى استخدمت، آنذاك، فى قاموس الشيفرة النوبية، وأوقعها أثرا، كلمة «أوشريا»، التى تعنى بالعربية «اضرب»، وتعبير «ساع آوى»، ومعناه «الساعة الثانية»، أى ساعة الصفر. وما إن تلقت كل الوحدات هاتين الكلمتين، حتى اشتعلت السماء والأرض والبحر بزئير الأسود المصرية، التى انتشرت على طول الجبهة، تتبارى لتسطير إسهاماتها فى صناعة التاريخ، وتحطيم أسطورة عدو، كاد أن يصدق افتراءاته ومزاعمه، بأنه لا يقهر.
لقد أسهم استخدام الشيفرة النوبية بين مركز العمليات الرئيسى، ومراكز القيادة الميدانية، وخطوط تحركات القوات، وتوجيه الأسلحة على مسارح العمليات، فى إدراك النصر المبين. حيث طار صواب قيادات العدو جراء مستوى التأمين والحماية، الذى حظيت به أنظمة الاتصالات العسكرية أثناء الحرب، فضلا عن تكتيكات الخداع ومناورات التضليل لقواته، علاوة على إفشال محاولات مخابراته المستميتة لاختراق شبكة الاتصالات واستراق السمع، لسبر أغوار خطط الهجوم المصرى. وقد ظلت القوات المسلحة المصرية تستخدم الشفرة النوبية المنيعة، حتى عام 1994؛ حيث تم تغييرها واعتماد شيفرات تعجيزية أخرى للأعداء.
اقتضت الحسابات الاستراتيجية، واستوجبت الاعتبارات المتعلقة بالأمن القومى، تأخير الإعلان عن دور البطل النوبى، أحمد إدريس، فى نصر أكتوبر العظيم، لأربعين حولا متصلة. حيث تأجل إطلاع المصريين والعالم قاطبة على هذا الفصل المشرق من فصول ملحمة رمضان الخالدة، حتى العاشر من أكتوبر عام 2017، موعد انعقاد الندوة التثقيفية السادسة والعشرين، التى نظمتها القوات المسلحة بمناسبة الذكرى الـرابعة والأربعين لانتصارات أكتوبر التليدة، بحضور قادة الجيوش، وحشد من جنودها وضباطها الحاليين والمتقاعدين. وكان من بين الفعاليات المتنوعة والمميزة لتلك الندوة، عرض فيلم وثائقى من إنتاج الشئون المعنوية للقوات المسلحة، بعنوان «الشفرة»، تضمن شرحا مفصلا من المساعد إدريس، لمحتوى فكرته، وتفاصيل مهمته، ومدى إسهامها فى استراتيجيات إجهاض محاولات التنصت اللاسلكية المتكررة على اتصالات قواتنا، والتى عكفت قوات العدو على مباشرتها، قبل، وأثناء، وبعد الحرب.
طيلة أربعة وأربعين عاما، تأجل تكريم، إدريس، حتى آن الأوان، وجاء موعد اللقاء مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، إبان الندوة التثقيفية سالفة الذكر. فحينها، همس إدريس للقائد الأعلى للقوات المسلحة، بمودة لا تخلو من وطنية يعانقها الفخر، قائلا: «أنا كاتم سر الشفرة النوبية فى حرب أكتوبر منذ أربعين سنة»، فكان رد الرئيس عليه، برفق لا يعوزه العرفان والتقدير: «أعرف؛ وقد حانت لحظة التكريم». وعلى الفور، صادق القائد الأعلى للقوات المسلحة، على منح المساعد أحمد إدريس، وسام النجمة العسكرية، جزاء ما قدمه من خدمات لوطنه أثناء حرب أكتوبر 1973. وما إن أجهش الشيخ النوبى بالبكاء من فرط سعادته بالتكريم، الذى ظل يترقبه زهاء نصف قرن، آملا أن يناله قبل أن توافيه منيته، حتى نهض الرئيس السيسى لتهنئته واحتضانه، تقديرا لدوره الوطنى، الذى أثرى ذاكرة المصريين، لاسيما الأجيال الجديدة، بخطى إضافية مُشرفة على درب البذل والعطاء لوطن يستحق ألا يضن عليه محبوه بكل غال ونفيس.
بفيض عطاء وجزيل ثناء، مضى صاحب فكرة الشيفرة النوبية قبل أن تقر عينه بتكريم آخر على المستوى الشعبى. ففور إعلان وفاته، التى تزامنت مع رحيل وزير الدفاع الأسبق، وأحد صناع إنجاز العبور التاريخى، المشير محمد حسين طنطاوى، انتفض المصريون بفراستهم المعهودة، ووفائهم النادر، وروحهم المرحة، يمجدون البطلين الفقيدين على طريقتهم. حيث أبى الشعب الأصيل إلا أن يرد الجميل للمناضل النوبى البسيط، عبر منحه لقب «مشير» مجازا. فلقد ارتأى بعض رواد وسائل التواصل الاجتماعى من مريدى إدريس، أن ما بذله البطل النوبى لوطنه وأمته خلال حرب رمضان يستحق منحه ذلك اللقب، ولو افتراضيا، أو على سبيل التقدير الشعبى. ومن ثم، توالت التغريدات على الفضاء السيبرانى ناعية البطلين الراحلين: «فقدت مصر مشيرين من أبطال نصر أكتوبر فى يوم واحد».
بينما كنت أسطر خواطرى المتواضعة عن شيفرة إدريس، لم يفارقنى طيف اللواء مهندس باقى زكى يوسف، مُبتكر فكرة استخدام خراطيم المياه فى إزالة خط بارليف الحصين، حتى تطأ قواتنا الباسلة أرض الفيروز. فرغم بساطته، حقق المقترح معجزة عسكرية، بعدما خوَل قواتنا إنجاز عمليتى اقتحام المانع المائى الملغوم، وتحطيم الساتر الترابى المُعجز، بنجاح منقطع النظير، وبأقل كلفة بشرية ومادية، مفندا تراهات العدو لجهة استحالة حدوث ذلك إلا باستخدام قنبلة نووية.
إلى حين تسمح الظروف بإماطة اللثام عن المزيد من التضحيات والبطولات، التى لا تعد ولا تحصى، للأوفياء والشجعان من أبناء هذا البلد المعطاء، يبقى المجد لمبدعى الأفكار الخلاقة، وأصحاب الإسهامات الوطنية البناءة، وإن تراءت بسيطة. وبينما يظل الخلود الفردوسى مثوى لشهداء الواجب، تعلو متوجة بأسمى آيات العرفان، هامة كل بطل، لا يزال بين ظهرانينا، ويأبى إلا مواصلة النضال والفداء، بتفان وإخلاص، وبمنأى عن الأضواء، ابتغاءً لمرضاة ربه، ورفعة بلاده، وعزة بنى وطنه.