نشرت جريدة الرياض السعودية مقالا للكاتبة نجوى هاشم جاء فيه؛ عندما التقيتها بعد غياب سنوات كان الزمن قد أخذ منها الكثير، وكانت الأيام قد استنزفت دواخلها، وأخذت منها ما استطاعت أن تأخذه، عرفتها لسنوات قوية، صارخة، محتجة، معترضة، مناكفة، معتدية، متنمرة، فى البدايات، عندما كنا صغارا كان البعض يحسب حسابا لصوتها العالى بدون سبب، ولتلك الهالة الهجومية غير المبررة التى تتدفق منها على الآخرين، خسرت الكثير، وتجنبها الكثير ممن حولها، عندما تهدأ، كانت تقول: أنا هكذا لا يمكن أن أتغير أو أتبدل، ما أقوم به انعكاس لشخصيتى القوية، تربيت أن أكون قوية، وصلبة، لا يدوس لى أحدهم على طرف، كنت أتجنبها لأننى بطبيعتى الهادئة لا أحب أن أتعايش مع مثل هذه الشخصيات المبشرة بالعواصف، وثقافة الفراغ.
لم يناقشها أحد فى معنى القوة التى ظلت ترتكز عليها، وفى مفهوم أن تكون قويا، وتصدّر هذه القوة للآخرين، ربما لأننا كنا صغارا ولا نسعى لتغيير الآخر أو تجاوز الأفق المسدود، تغير الزمن وتغيرنا نحن، وأخذت الحياة الجميع بين طرقاتها، ولكن كيف استطاعت الحياة تشكيل كل منّا حتى المنطلقين دون قياد؟
هل لأن الحياة ديدنها التغيير الإجبارى؟ أم أن البشر قابلون للتغيير؟
وما بين تلك القوة الورقية سابقا وهذا السكون الآن مساحة فاصلة، ومسيرة من المؤكد أنها تخللتها الأحداث والأحزان، والتجارب، وإعادة قراءة الحياة بشكل مختلف وبطريقة تبتعد عن تعليم الآخرين فقط، وليس التعلم منهم.
أن تكون قويا هذا شأنك، ولكن هل تتفهم معنى القوة، والتعامل بها مع الآخرين دون المرور على تلك المضامين الإنسانية؟
هل يتفهم القوى أن القوة ليست فقط فى القول والفعل؟ لأن من يقول قد يرتكب الأخطاء وهو ينطق، ومن يفعل بالقوة قد يرتكب الحماقات وتختلط عليه الأمور، ولذلك قد تجد الناس تعرف مقدما كيف يتصرف من يدعى القوة من صوته، لأنه قد يتدفق بترسانة من المفردات التى لا تحمل معنى ويتحول إلى شخص مقروء مسبقا، قد يأتيه من هو أقوى منه ويتجاوزه، لأن هذه القوة تتحول إلى اندفاع لا يرى من خلاله الصورة جيدا ولا يقرؤها، وتظل المساحة لمن يتعامل معه أرحب وأكثر احتمالا لاتخاذ القرار المناسب، والتصرف السليم.
تلك المرأة التى التقيتها واعتدت طريقتها المكشوفة فى التعامل مع الآخرين وبالتعبير العامى، «قوتها فى لسانها» أو كما تقول اللى فى قلبى على لسانى، هذا اللسان الجارح والموجع، تحول مع مرور الزمن إلى لسان صامت يتململ من أجل أن ينتقل من حديث إلى آخر، والواقع أننى استغربت من تغيرها لكن لم أعلق، وتجاذبنا أحاديث متفرقة ومتباعدة كشفت لى توازنا غريبا فى شخصيتها الجديدة والهادئة والصامتة، والتى اعتمدت فيها على الاستماع أكثر من الكلام، وكأنه النظام الجديد فى حياتها، بدت أكثر هدوء، وتبسما، تذكرت معها ما قاله نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب إفريقى «القوة ليست فيما نقول ونفعل، أحيانا، تكون فيما نصمت عنه، فيما نتركه بإرادتنا، وفيما نتجاهله».
وأعتقد أن القوة الحقيقية هى فى الصمت، لأنه الاختيار الأسهل لك والأصعب للآخر، الصمت عما نتركه باختيارنا ونفتح له النوافذ، الصمت عندما نتجاهل ما لا نريد ونسقطه من حساباتنا.