الأساطير المؤسسة لنفاق الحكومات الغربية لإسرائيل
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 5 نوفمبر 2023 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
كثيرة هى الأساطير أو الادعاءات المستترة أحيانا والصريحة أحيانا أخرى التى أصبحت بمثابة أحجار الأساس فى السياسات الغربية منذ احتلت الحركة الصهيونية أرض فلسطين، ولكنى سأكتفى بثلاث منها، هى أولا أن إسرائيل قلعة متقدمة للحضارة الغربية فى أرض الإسلام المتخلفة، وثانيا أن إسرائيل تدافع عن نفسها فى مواجهة جماعات إرهابية، وأنه ثالثا لا سلام فى الشرق الأوسط إلا بالقضاء على هذه الجماعات الإرهابية وفى مقدمتها فى الوقت الحاضر حركة المقاومة الإسلامية حماس. هذه الأساطير تنبنى إما على أنصاف حقائق، تلونها هذه الحكومات ومؤسساتها الإعلامية كيفما يحلو لها، أو هى مغالطات واضحة تستعذب تكرارها كما لو أن تكرارها يمكن أن يقنع من تصل إليهم هذه الرسائل من مواطنيها ومواطناتها ومن الذين يتابعون نشاط هذه المؤسسات.
أسطورة إسرائيل كقلعة متقدمة للحضارة الغربية فى محيط متخلف
تستند هذه الأسطورة إلى أنصاف حقائق؛ طبعا إسرائيل قلعة متقدمة للحضارة الغربية، وأن العالم العربى الذى نشأت إسرائيل فى وسطه، والذى كان منبر الحضارة الإنسانية فى العصور القديمة وحتى بداية العصور الوسطى، يجاهد للخروج من ظلمات التخلف الذى فرضه عليه ــ جزئيا ــ وقوعه تحت السيطرة الغربية المباشرة على الأقل قرنين من الزمان. النصف الآخر من الحقيقة هو أن إسرائيل تمثل أسوأ ما جاءت به الحضارة الغربية؛ فهى فى نهاية الأمر استعمار استيطانى يماثل ما جرى فى أماكن أخرى من العالم فى الأمريكيتين، وفى القارة الإفريقية خصوصا فى جنوبها وزيمبابوى قبل التخلص من نظام التفرقة العنصرية فى الأولى ومن الاستعمار البريطانى فى الثانية. وتاريخ هذا الاستعمار الاستيطانى واضح ومعروف للعيان. ألم يكن الأساس فى هذا الاستعمار هو ذلك الوعد المشئوم من وزير الخارجية البريطانى للحركة الصهيونية بأن تكون فلسطين هى الوطن القومى لليهود فى الثانى من نوفمبر 1917، وفى ظل الاحتلال البريطانى لفلسطين سهلت إدارته قدوم اليهود فى موجات متتابعة للاستقرار فى تلك البقعة العربية، وفى مواجهة مقاومة باسلة من سكانها العرب انفجرت فى ثورة استمرت ثلاث سنوات من 1936 حتى 1939. ويستند الاستعمار الاستيطانى، فى كل حالاته إلى الاعتقاد الجازم للمستوطنين أنهم ينتمون إلى جنس متفوق يبرر لهم تفوقهم الإطاحة بأى حقوق للسكان الأصليين أو حتى التخلص منهم، فذلك فى رأيهم مكسب للحضارة، بل يبرر لهم إنكار وجودهم أصلا، كما عبرت عن ذلك بوضوح جولدا مائير، رئيسة سابقة لوزراء إسرائيل، عندما تساءلت فى بداية سبعينيات القرن الماضى «من هم الفلسطينيون؟» متجاهلة أنهم هم الذين أقامت دولتها على أراضيهم.
قادة الدول الغربية يعرفون جيدا هذه الحقائق، ويعرفها خبراؤهم، وهى مذكورة فى كتب رصينة دبجها أساتذة مرموقون يعملون فى جامعاتهم، ولكنهم يحبون أن يرسموا فى أذهانهم صورة مغايرة لهذا التاريخ. فلسطين هى الحل النهائى لمشكلة أوروبية فى الصميم، هى المخرج من الاضطهاد الأوروبى لليهود الذى استمر قرونا عديدة، وكانت أبشع صوره هو ما تم على يدى النظام النازى فى ألمانيا فى سنوات حكمه الثانية عشرة، وكانت له سوابق خصوصا فى روسيا القيصرية، وحكايات شهيرة حتى فى فرنسا صاحبة القيم الجمهورية والتى ترفع راية العلمانية، ويتصور هؤلاء القادة أنهم يحتلون القمة الأخلاقية عندما يدعون أنهم بوقوفهم إلى جانب إسرائيل فإنهم يقفون مع رفض الاضطهاد والتمييز الدينى، ولا يؤنبهم ضميرهم أن حل المشكلة اليهودية يجرى خارج بلادهم ويقع على عاتق من لم يتسببوا أصلا فيها.
وفضلا عن أن إسرائيل تمثل أسوأ ما جاءت به الحضارة الأوروبية وهو الاستعمار الاستيطانى الذى يقتلع شعوبا من موطنها الأصلى لصالح غرباء عنها حتى وإن ادعوا بلا دليل أنها كانت بلدهم منذ أكثر من ألفين من السنين، فإن إسرائيل بقانون القومية اليهودية الذى وافق عليه الكنيست الإسرائيلى فى ١٩ يوليو ٢٠١٨ تخرج على الإنجاز الذى تفخر به الحضارة الأوروبية وهو إقامة الدولة القومية العلمانية الديمقراطية التى تقر بالحق فى المساواة لكل من يعيش على أرضها. قانون القومية اليهودية هذا لا يعترف بالمواطنة إلا لليهود، ومن ثم فغير اليهود الذين يمثلون الآن ليس أقل من خمس السكان، والذين يتزايد عددهم سنة بعد سنة، يمكن حرمانهم من جنسية الدولة التى يعيشون على أرضها، ويصبح ذلك إقرارا رسميا مع إجراءات أخرى بالتفرقة العنصرية بين السكان. بل إن الفلسطينيين والفلسطينيات فى الضفة الغربية التى تريد إسرائيل ضمها لن يكونوا مواطنين، فهذا سوف يهدد النقاء العنصرى للدولة اليهودية. ولن يكون لهم فى حسابات وزراء حكومة نتنياهو أى حقوق، بل إن مصيرهم هو الترحيل أو الترانسفير باللغة الإنجليزية، إلى الأردن أو سيناء حيث يكون لهم الوطن البديل. هل هذه الدولة الدينية التى تقوم على أساس الاستعمار الاستيطانى والتمييز الدينى بل واحتقار أصحاب الديانات الأخرى، كما صرح بذلك بعض مشاهير رجال الدين اليهود، هى القلعة المتقدمة للحضارة الأوروبية فى الشرق الأوسط. يا لبؤس تلك الحضارة.
الأسطورة الثانية: إسرائيل هى ضحية للعنف، ومن يقاومون جيشها هم إرهابيون
هذه الأسطورة التى تسترشد بها الحكومات الغربية هى النتيجة المنطقية للأسطورة الأولى، فطالما أن إسرائيل قلعة متقدمة للحضارة الأوروبية، ودولة ديمقراطية، فإنها لا تمارس العنف، وإنما تتخذ إجراءات ضبطية ومنضبطة ضد من يخرجون عن قوانينها، وهى دائما إجراءات استثنائية، تتوقف بعد أن يتم ردع هؤلاء الخارجين عن القانون، فى حين أن طبيعة إسرائيل كدولة استعمار استيطانى تجعل العنف هو الوسيلة الأساسية لبقائها فى مواجهة المقاومة المشروعة ممن استولت على وطنهم. طبعا الحكومات الغربية لا تنظر لإسرائيل على هذا النحو، ولكنها تتعامل برفق شديد مع استمرار أساليب الاستعمار الاستيطانى فى الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى حرب ١٩٦٧، سواء فى الجولان أو الضفة الغربية أو محيط غزة. أليست كل المستوطنات التى أقامتها إسرائيل بعد ذلك التاريخ هى اغتصاب للأراضى ينسجم تماما مع أساليب الاستعمار الاستيطانى؟ وهل من قبيل أعمال حفظ القانون الذى تلجأ إليه الدول المتحضرة وجود الآلاف من الفلسطينيين والفلسطينيات معتقلين إداريا ولسنوات فى السجون الإسرائيلية، وكذلك تعمد انتهاك اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية بحصر وجودها فى مساحة ضئيلة من الضفة الغربية لكى تتوسع فى بقية مساحتها المستوطنات، فضلا عن تعدد الغارات التى تشنها القوات الإسرائيلية على مدن الضفة ومخيمات اللجوء فيها، وأخيرا ترك العنان للمستوطنين يعيثون فيها فسادا وصل إلى حد مقتل أكثر من مائة فلسطينى خلال الأسابيع الثلاث الأخيرة على يد المستوطنين وقوات الجيش الإسرائيلى؟!!. أو ليس كل ذلك مظاهر للعنف المؤسسى والبنيوى والبدنى الذى تمارسه إسرائيل على الشعب الفلسطينى فى الأراضى المحتلة؟
ولكن إذا كان حكم القانون غائبا. سواء القانون الداخلى الذى تعرفه الدول الديمقراطية أو القانون الدولى والإنسانى فى حالة الأراضى المحتلة، وإذا كانت كل مساعى التسوية السلمية قد فشلت بل وتوقفت تماما فى ظل كل الحكومات التى ترأسها بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الحالى فى إسرائيل، فما الذى تبقى للشعب الفلسطينى من وسائل مشروعة لمقاومة الاحتلال وتوسع المستوطنات والحصار البرى والبحرى والجوى المفروض بشكل كامل على قطاع غزة وبصورة جزئية على الضفة الغربية؟ القانون الدولى يعطى لشعوب الأوطان المحتلة الحق فى المقاومة المسلحة الشرعية للاحتلال. هنا تخرج الحكومات الغربية على ادعاء التزامها بالقانون الدولى وتعتبر أن المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلى هى من قبيل الإرهاب. ولذلك ليس مستغربا أن تكون الصفة التى يلصقها الإعلام الغربى بحماس أنها منظمة إرهابية وإسلامية ليوقظ فى نفوس مرتاديه مشاعر تعصب وفزع كامنة ترتبط ليس فقط بالإرهاب، ولكن كذلك بالإسلام. وعقد كثير من المعلقين فى الإعلام الغربى المقارنة بين حماس وداعش، علما بأن حماس، حسب علمى، لم تقم بأى نشاط مسلح خارج الأراضى المحتلة، ولم تستهدف الغربيين تحديدا، باستثناء حاملى الجنسيات المزدوجة الذين تصادف أن امتدت لهم أيادى نشطاء حماس فى السابع من أكتوبر. وهكذا وجدنا كل الحكومات الغربية حتى هذه اللحظة تصر على موقفها الداعم لإسرائيل، والذى يعتبر من قبيل الدفاع عن النفس؛ المجازر التى ارتكبتها القوات الإسرائيلية فى غزة والتى كلفت الحياة لقرابة عشرة آلاف فلسطينى، أربعون فى المائة منهم من الأطفال وربعهم من النساء، وأصابت بالجروح متفاوتة الخطورة ثلاثة أمثال هذا العدد. طبعا عندما توصف حماس بأنها منظمة إرهابية تتغافل الحكومات الغربية ومؤسساتها الإعلامية أن حماس حركة سياسية واجتماعية وهى سلطة حكم فى غزة تشرف على مدارس ومستشفيات وجمعيات أهلية، وأنها جاءت للحكم بعد فوزها فى انتخابات حرة ونزيهة حصلت فيها على أغلبية الأصوات متفوقة على حركة فتح التى نبعت منها السلطة الفلسطينية.
الأسطورة الثالثة: التسوية النهائية للوضع الحالى رهن بألا تكون حماس جزءا من الحل
تلك الأسطورة هى مجرد امتداد للأسطورتين السابقتين، فطالما أن إسرائيل هى قلعة متقدمة للحضارة الغربية وسط محيط من التخلف، وأنها تعرضت لصدمة قاسية على يد تنظيم إرهابى أسقط كل عقيدتها العسكرية القائمة على التفوق التكنولوجى، الذى هو أساس مكانة الغرب فى النظام العالمى، فالاستنتاج الوحيد الممكن هو ضرورة القضاء على هذا التنظيم الماكر ليستعيد الغرب ثقته فى قدراته التكنولوجية، ولكى تبقى صورة إسرائيل، طفل الغرب المدلل، متسيدة على تلك الشعوب التى تكن للغرب عداوة حتى ولو تظاهر حكامهم بالود تجاهه. وهنا لا تقدر هذه الأسطورة على أن تقنع أحدا يعرف تاريخ إسرائيل وتاريخ الغرب. لا داعى لأن نذكر بالسياق الذى خرجت فيه حماس، وهو ما قصده أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، وجلب عليه حنق وزير خارجية إسرائيل، ولكن ألم يكن رئيس وزراء سابق لإسرائيل وهو مناحم بيجين قائدا لتنظيم إرهابى قبل نشأة دولة إسرائيل هو تنظيم إرجون الذى انخرط فى هجمات إرهابية على الشعب الفلسطينى؟ وألم تتفاوض كبرى الحكومات الغربية مع من كانت تعتبرهم سابقا إرهابيين بعد هزائم عسكرية تلقتها على أيدى حركاتهم المسلحة. تفاوضت الحكومة الأمريكية مع حركة التحرير الوطنى الفيتنامية فى بداية سبعينيات القرن الماضى وهى تواجه موقفا عسكريا صعبا فى فيتنام الجنوبية، وتفاوضت قبلها حكومة ديجول الفرنسية مع قادة جبهة التحرير الوطنى التى رفعت السلاح فى مواجهة احتلال فرنسا للجزائر فى الفترة ١٩٦٠ــ١٩٦٢. أوليس العنف المسلح، النهج الذى تبنته هذه الحركات هو الرد على صور العنف المؤسسى والبنيوى والبدنى الذى مارسته كل قوى الاحتلال هذه؟ وهل حماس استثناء من قاعدة العنف الذى يولد العنف، كما يعرف ذلك خبراء الحركات المسلحة فى الجامعات الغربية؟ وهل يضمن نجاح إسرائيل فى تصفية البنية المسلحة لحماس القضاء على حماس أيضا كحركة سياسية واجتماعية فى وسط الشعب الفلسطينى، أو ظهور بديل لها يبنى على خبرتها ويتفوق عليها، ليس فى غزة وحدها ولكن فى الضفة الغربية أيضا، مادامت حكومة إسرائيل تصر على تدعيم وتوسيع احتلالها للأراضى الفلسطينية؟
هل تفيق هذه الحكومات؟
مما يدعو للسخرية حقا أن الحكومات الغربية تستسلم لهذه الأوهام، وتستغرق الآن فى البحث عن مكافأة إسرائيل بعد نجاحها المقبل الموهوم فى القضاء على حماس بأن يتركوا إدارة قطاع غزة للعرب، أو لحكومة فلسطينية عميلة أو لقوات دولية. ولكن لحسن الحظ أن هناك كثيرين فى الغرب لا يصدقون حكوماتهم ولا مؤسساتهم الإعلامية ويدركون خطل هذه الأساطير التى تستعذبها حكوماتهم. أملنا أن تستمع هذه الحكومات لمثل هذه الأصوات بين الدبلوماسيين المحترفين، وأساتذة الجامعات، والفنانين والفنانات والشباب، وأن تعدل مواقفها بما يتفق مع الواقع ودروس التاريخ وقيم العدالة والحرية لكل البشر.