العزوة.. تلك التى كانت
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 6 يناير 2019 - 11:55 م
بتوقيت القاهرة
كما هناك حياة للروح والنفس، يبدو أن للكلمات حيوات أيضا.. بعض الكلمات التى كانت جزءا من طفولة هى الأخرى تبعثرت على رمال العمر، لم تعد من المفردات التى تسمعها إلا نادرا عند البعض الذى يتصور أنه مهما تغيرت طقوس الحياة وتحولت الأزمان سيبقى هو قابض على تلك اللحظات والكلمات والتقاليد وكأنه يقول لو انتهت فحتما أنتهى أنا وأجيال من بعدى.
***
فى الذاكرة أو فى زواياها تختزن بعض المفردات فلابد من السؤال أين أصبحت هذه التى قلنا إنها أساس راسخ لمجتمعاتنا مثل العزوة والنخوة والشهامة والكرامة والنبل والكرم.. تبقى العزوة الأكثر إلحاحا كلما سرحت الذاكرة فى دهاليز التاريخ الشفهى للمجموعة. كان يقال فلان عزوتى أو فلانة عزوة على الرغم من أن الأكثر هو أن الرجل هو عزوة العائلة من أقارب أو حتى جيران ومعارف فى مجتمع لسنوات لم يكن قادرا على الاعتراف بدور نسائه فى إدارة عائلات بأكملها.
***
ولم تكن العزوة مرتبطة بقرابة عائلية أو صلة دم بل حتى بالعائلات المقيمة فى نفس «الفريج» (الحى) أو حتى المجموعة التى تعمل فى نفس المهنة أو نفس المكان أو المجموعة التى قررت أن تجتمع تحت راية هدف معين أو موقف اجتماعى أو ثقافى أو سياسى أو حتى أخلاقى مثل جمعية الشفافية أو تلك التى تقف ضد الفساد أو حماية المستهلك أو اتحاد طلبة أو الجمعيات النسائية وغيرها.. تلك المجموعات التى اعترف العالم على تسميتها جمعيات المجتمع المدنى أو النفع العام وهى بذلك على الجهة الأخرى من تلك المرتبطة بالحكومات المحلية أو الخارجية!
***
المثير أنه حتى أبسط التجمعات تخلت عن مفاهيمها المرتبطة جميعا تحت راية التضامن والمعاضدة وأصبح الشعار «لكل مصلحته ومن بعده الطوفان»، على الرغم من أن فى الشعارات يتبارى الجميع فى وضع الأهداف المرتبطة بخدمة الإنسان طفلا كان أم امرأة، مواطنا أو وافدا، مقيما أو زائرا.. كل العبارات المرصوصة بعناية والمستحدثة كثيرا والمكررة حد الملل والسماجة حتى أن الكثير من النواب المحدثين والقادمين الجدد إلى ركب العمل السياسى والتشريعى، يدخلون مناصبهم الجديدة مسلحين بكثير من هذه العبارات والمفردات المطاطة والممسوخة كمسخ السياسة التى أصبحت مرتعا لكل من لا مهنة له!
***
تطفو العزوة مع تلك الشعارات والمشاهدات، تبحث عن أحد يستخدمها بحق أو يعرف عمق معناها.. فلا تجد إلا مزيدا من الزبد! فذاك الذى غرد برأى يجر إلى التوقيف إن لم يكن السجن لأيام ولا عزوة له فى أهل مهنته بل ابتعد الجميع ربما خوفا وهو المرض المنتشر الآن فى مجتمعات تخاف ظلها أو ربما تخاف أشباح النساء والرجال الحقيقيين الذين رحلوا وكانوا هم عزوة الوطن.
وأخرى قالت رأى فى الدين والمرأة فاشتعلت الحملات عليها ملصقة كل الصفات السيئة ولم تتحرك امرأة ولا جمعية نسائية محلية أو إقليمية للدفاع عنها.. فلا عزوة لها ولا عزاء!
***
سقطت العزوة كأخواتها بين تلاطم أمواج التغييرات السريعة لمجتمعات هشة كالبسكويت.. انتقلت إلى الصفحات الصفراء فى الكتب المركونة على الأرفف يعلوها الغبار فيما حولها الكثيرون محلقين حول مجلس عامر بكل ما لذ وطاب وهم جميعا ملتصقين بهواتفهم الذكية يبحثون عن خبر هنا أو حديث أو فضيحة هناك.. ثم يرشفون بعضا من الشاى المسكر وهم يرددون «الحيطان لها آذان يا شباب وشابات» أو «أبعد عن الشر وغنى له» أو حتى يبرروا لأنفسهم خوفهم وعجزهم وتخليهم عن كل ما هو جميل بهذا المجتمع.. وما يلبثوا وأن يعودوا إلى شاشات هواتفهم بحثا عن خبر جديد يتسلون به بعض الوقت ثم يرحلون إلى خبر آخر أو أغنية أو رقصة أو...!
***
وما دمنا فى حمة المتاحف العالمية فلم لا يفتتح أحدها ليتخصص فيما انتهى وانقرض من مفردات وصفات اجتماعية وأخلاقيات أليست المتاحف أمكنة للتذكير بما كان يمثل شكلا من أشكال الحضارة وأليست الأخلاق هى أساس كل الحضارات؟ بدلا من التركيز على بعض تفاصيل الحياة الفلكلورية ولما لا يكون هناك متحف للتاريخ الشفهى لهذا البلد أو هذا الجزء من تلك المنطقة؟ فأحد أهم ما يبقى بعد أن ترحل الأرواح بعيدا وبعد أن تنقرض الكلمات وتنتهى أو تختفى معانيها من تضاريس أيامنا هو أن نحتفظ بها فى مكان ما ربما يوما ما يتذكرها صغارنا كما يتذكرون لكثير من الجمال الذى كان وتلاشى..!