نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتبة فاطمة الزهراء عبدالفتاح، تناولت فيه استخدام تكنولوجيا الاتصالات كسلاح لفرض العزلة الرقمية فى مناطق الصراعات (مثلما يحدث فى غزة الآن) لممارسة الضغوط والتعتيم على الانتهاكات الجسيمة، نظرا لدور هذه التكنولوجيا فى إنقاذ ضحايا الحروب بفضحها لأفعال القوى المتصارعة أمام العالم. كذلك تطرقت الكاتبة إلى أن توفير بدائل تكنولوجية لقطع الإنترنت لا يعد حلا طويل الأمد لتعرض هذه البدائل لعملية تسييس بمنحها أو حجبها وفقا للانتماءات السياسية لموفريها؛ لذا أكدت كاتبة المقال على المسئولية السياسية والإنسانية للحكومات والمؤسسات الدولية والشركات الكبرى فى الدفاع عن حق الإنسان فى الوصول الآمن للاتصالات السلكية واللاسلكية... نعرض من المقال ما يلى:لم تكن الأسابيع الأولى من العام 2024 أفضل من سابقتها، إذ ظل العالم يعانى من صراعات دامية راح ضحيتها الآلاف الذين لم تزهق أرواحهم بنيران الأسلحة الثقيلة فحسب، إذ كان لتدمير البنى التحتية وقطع إمدادات الإغاثة أثر بالغ فى جعل تلك الصراعات أكثر قسوة ودموية، وهو الأمر الذى كانت شبكة الإنترنت جزءا أصيلا منه، ليس فقط بشن الهجمات السيبرانية أو بث الدعاية والتضليل، وإنما باستهداف مواردها وقطع خدماتها سواء بفعل تعطيل محطات الكهرباء أو الاستهداف المباشر لأبراج الاتصالات. ما جعل العزلة الرقمية سلاحا فى أيدى القوى المتصارعة لممارسة الضغوط والتعتيم على الانتهاكات الجسيمة، وجعل استهداف خطوط الاتصالات لا يقل أهمية عن استهداف الثكنات العسكرية والمنشآت الحيوية.
وبالمقابل، كان التواصل عبر الإنترنت سببا فى حشد التبرعات وتوزيع الإمدادات والإبلاغ عن الضحايا وإنقاذهم وتخفيف آثار تلك النزاعات على حيواتهم، ما يؤكد أهمية الدفاع عن الحق فى الاتصال فى مناطق الصراعات المسلحة والحروب.
• • •
لا يقتصر توظيف تكنولوجيا الاتصالات بالصراعات المسلحة على تطوير الأسلحة الذكية والهجمات الإلكترونية وعمليات الاختراق المتطورة فحسب، وإنما بات استهداف شبكات الاتصالات واعتماد العزلة الرقمية لمناطق الصراع سلاحا فعالا يتم توظيفه فى أوقات النزاعات.
وتُعد الحرب فى غزة من أبرز الشواهد على استخدام الإنترنت كعنصر للضغط والعزل والترهيب فى مناطق الصراعات المسلحة، إذ كانت انقطاعات الشبكة سمة رئيسية خلال الأحداث وانخفضت كفاءة الشبكة إلى 5% فقط ببعض المناطق. ولم تكتف إسرائيل بتدمير 80% من البنية التحتية لقطاع الاتصالات بغزة، عبر استهداف أبراج الاتصالات الخلوية وكابلات الألياف الضوئية ومكاتب مزودى خدمات الإنترنت، وإنما اتجهت إلى الاستهداف الصاروخى لطواقم العمال المدنيين الذين يحاولون إصلاحها، وكذلك المواطنين الذين يحاولون التقاط بث الاتصالات، إذ أعلن المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان أنه وثق تعمد قوات الجيش الإسرائيلى قتل ما لا يقل عن سبعة مدنيين فلسطينيين فى أقل من أسبوع خلال محاولتهم التقاط بث الاتصالات والإنترنت.
ولا يُعد توظيف سلاح العزلة الرقمية فى مناطق الصراع بالشرق الأوسط استثناءً من بين دول العالم التى تشهد استهدافا منظما للاتصالات كجزء من الضغوط التى تتم ممارستها على الأطراف المعادية، ففى أوكرانيا، تم اعتبار قطع الإنترنت جزءا من الاستراتيجية الهجومية الروسية سواء بالاستهداف المباشر لأبراج الاتصالات أو نتيجة لتدمير لبنى الخدمات الأساسية، وهو ما تسبب فى الانقطاع الجزئى أو الكامل للخدمة.
• • •
فى يوليو 2023، أثار الكشف عن فيديو لامرأتين يتم عرضهما عاريتين من قبل حشد من الرجال فى منطقة مانيبور بالهند غضبا بين المنظمات الحقوقية التى ربطت بين تأخر الإفصاح عن الفيديو لأكثر من شهرين وقرار قطع الإنترنت فى المنطقة التى شهدت صراعا عرقيا بين شعب ميتى وشعب كوكى القبلى المسيحى، كما تكرر الأمر نفسه فى إثيوبيا التى تعتمد إغلاقا مستمرا للخدمة فى مناطق الصراع المسلح، إذ يستمر قطع الإنترنت عن إقليم تيجراى منذ نوفمبر 2020 أى لمدة 1199 يوما، كما تعتمد إغلاقا متواصلا للشبكة فى منطقة أمهرة منذ اندلاع النزاع المسلح بين القوات الفدرالية ومقاتلى فانو، وسط تزايد حالات القتل والاعتداءات وإعلان منظمات دولية قلقها من ارتكاب جرائم متزايدة ضد المدنيين دون القدرة على الإبلاغ عنها أو تقديم المساعدة للضحايا أو حتى الحيلولة دون وقوعها بسبب قطع الإنترنت.
تؤشر تلك الأحداث على القيمة الإيجابية التى يقدمها الاتصال بالإنترنت فى مناطق الصراع والتخفيف من آثاره، والأدوار الفاعلة للشبكة فى حماية أرواح المدنيين وتخفيف آثار النزاعات على حيواتهم، إذ تعمل المواقع الإخبارية والمنصات الإلكترونية للمنظمات المدنية والإغاثية وشبكات التواصل الاجتماعى على توفير المعلومات بكثافة وسرعة تساعد سكان مناطق النزاعات على النجاة أو الحصول على المساعدة أو الإغاثة فى أوقات الطوارئ أو حتى الاستجابة لتحذيرات الإخلاء والتعريف بالممرات الإنسانية، فضلا عن توفير الشبكة قنوات التواصل اللازمة لاطمئنان الأفراد على عائلاتهم والتواصل مع ذويهم، هذا إلى جانب توفير الفرصة لبث الصور والفيديوهات من قلب الأحداث بما قد يحول دون ارتكاب الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، ويساعد وسائل الإعلام الاحترافية خاصة الدولية على أداء مهامها والوصول لمصادر المعلومات، الأمر الذى يفرض حماية ضمنية للمدنيين باستخدام ضغوط الكشف والإدلاء، هذا بخلاف الحد من الدعاية العسكرية عن طريق إتاحة مصادر الأخبار البديلة.
• • •
برز اسم شركة ستارلينك المقدمة لخدمات الإنترنت الفضائى والمملوكة للملياردير الأمريكى إيلون ماسك خلال الصراعات المسلحة بأماكن متفرقة من العالم، كوسيلة فعالة لإعادة الاتصال بالشبكة العنكبوتية العالمية، ولاسيما فى الحرب الروسية الأوكرانية التى قدمت خلالها الشركة آلاف المحطات التى أتاحت اتصالا غير محدود للبيانات من أى مكان بالبلاد عبر شبكة من الأقمار الاصطناعية فى مدار أرضى منخفض، تتيح الوصول إلى الإنترنت عالى السرعة، وبما يسمح للحكومة بمواصلة الاتصالات وتجاوز الخوادم الروسية، أخذا فى الاعتبار التحديات التى تواجه تلك البدائل وفى مقدمتها التكلفة المادية، إذ بلغت تكلفة توفير الإنترنت الفضائى فى أوكرانيا ما يقرب من 20 مليون دولار شهريا بإجمالى 400 مليون دولار حتى نهاية 2023.
وفى غزة، أعلنت حكومة دولة الإمارات فى فبراير 2024 أنها ستستعين بخدمات ستارلينك للاتصال عبر الأقمار الاصطناعية لتوفير خدمة الإنترنت عالى السرعة بالمستشفى الإماراتى الميدانى جنوب غزة بهدف توفير الاستشارات الطبية عبر الفيديو فى الوقت الفعلى، بالمشاركة مع عدد من المؤسسات الطبية العالمية.
ولا تُعد خدمات الإنترنت الفضائى التى تتيحها ستارلينك هى البديل الوحيد لقطع اتصالات الإنترنت الأرضية، إذ يطور منافسون آخرون خدمات للتقنية ذاتها مثل: شركات وان ويب وأمازون، وأعلنت الصين أيضا تطويرها مشروعا لشبكة من الأقمار الاصطناعية ذات النطاق العريض، كما تتوافر بدائل تقنية أخرى للإنترنت الفضائى مثل: الاعتماد على الشبكات المتداخلة أو الشعرية اللاسلكية (Mesh networking)، وكذلك مشروع بالونات لوون التابعة لشركة ألفابايت والتى توفر الاتصال بالإنترنت من طبقة الستراتوسفير بالغلاف الجوى ويتم تسييرها بالطاقة الشمسية وتوجيهها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعى وتُعد فعالة لتوصيل الإنترنت فى مناطق الإغاثة وتم تطبيقها فى بيرو وكينيا.
والحقيقة أن توفير البدائل التكنولوجية لقطع خطوط الإنترنت لا يُعد حلا طويل الأمد لحماية الحق فى الاتصال بأوقات الصراع، أخذا فى الاعتبار تسييس تلك الحلول ذاتها بمنحها أو حجبها وفقا للمواقف السياسية لموفريها، إذ تتحمل الأطراف المختلفة مسئولية سياسية وإنسانية للدفاع عن حقوق الأفراد فى وصول آمن للاتصالات السلكية واللاسلكية ومصادر المعلومات الرقمية، وهو ما تضطلع به الحكومات نفسها الملتزمة بالوفاء بتعهداتها والتقليل من تبعات الصراعات المسلحة قدر الإمكان.
هذا جنبا إلى جنب مع المنظمات الدولية والوكالات المحلية ومؤسسات المجتمع المدنى، فضلا عن دور شركات التكنولوجيا فى المناطق المتاخمة بتقوية نطاق البث وقدرات الشبكات على التغطية، وتعزيز تأمينها ضد القرصنة أو الاختراق لمنع استخدامها لأغراض مضادة، هذا بخلاف الالتزامات طويلة الأمد المتعلقة بالتعاون لإعادة إعمار البنية الاتصالية المتضررة، وتأمين الوصول لبدائلها من الحلول غير التقليدية.
النص الأصلى