أحمد خالد توفيق.. كل هذا الحب
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 6 أبريل 2018 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
لسنوات طويلة، ما يقترب من ربع القرن، تربع الكاتب والطبيب أحمد خالد توفيق على عرش الأكثر «جماهيرية وانتشارا» فى مصر والعالم العربى، منذ دشن سلسلة الجيب الشهيرة «ما وراء الطبيعة» وبطلها د.رفعت إسماعيل عام 1993. اسمه دون منازع يحلق وحده بين الشرائح العمرية التى تتراوح بين الثالثة عشرة والثلاثين (وهناك قطاع لا بأس به فوق هذه السن يعتبره كاتبه المفضل بلا منافس)، كانت تجربته العملية والكتابية ملهمة بأكثر من وجه وعلى أكثر من مستوى:
خرج من عباءة أحمد خالد توفيق جيلان (ربما ثلاثة أو أكثر!) تتراوح أعمارهم الآن بين الثلاثين والأربعين؛ منهم أسماء معروفة فى مجال كتابة الإثارة والتشويق (كتابة الرعب والفانتازيا والخيال العلمى)، وفى مجالات أخرى أبرزها كتابة السيناريو والميديا والفضائيات والصحافة.
البعض اعتبر أحمد خالد توفيق وما أنتجه على مدى عقدين من الزمان «ظاهرة كتابية» مثيرة للخيال والاهتمام معا، فالرجل الذى بدا أن تركيبته الشخصية «هادئة» و«مسالمة» و«وديعة» للغاية، بدأ حياته كاتبا لروايات الجيب، تسلم الراية من رائدها الكبير «د.نبيل فاروق» ألمع اسم ظهر فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، بعد أن صار حلقة أساسية فى تكوين أجيال من القراء أو الذين صاروا قراء يمارسون عادة القراءة ويشغفون بها، من خلال سلاسل الجيب التى أنتجها وانتشرت كالنار فى العالم العربى كله (رجل المستحيل، وملف المستقبل، ومن بعدهما كوكتيل 2000، ثم بانوراما، وزووم.. إلخ).
كان ظهور أحمد خالد توفيق بسلسلته «ما وراء الطبيعة» إعلانا عن بدء مرحلة جديدة فى تاريخ سلاسل الجيب وكتب الإثارة وقصص التشويق والمتعة فى الثقافة العربية، كان طموحه أكبر من هذا بكثير، ثقافته الواسعة وإجادته للإنجليزية ونهمه للقراءة خاصة فى مجال الأدب والخيال العلمى والفانتازيا ساعده على أن يتجاوز فكرة تقديم سلسلة للجيب، مثيرة وشائقة، وانتهى الموضوع عند هذا الحد! لا أبدا.
وَعْى أحمد خالد توفيق بالنوع الكتابى الذى استهل به تجربته الكتابية كان مركزا للدرجة التى يصح معها القول إنه نجح باقتدار فى أن يكون رائدا لكتابة الرعب والإثارة، وعنها يقول «منذ زمن طويل وقصص الرعب تشد اهتمامى، وكنت أبحث عنها فى نهم ولم أجد العدد الكافى الذى يشبعنى فقررت أن أكتبها أنا شخصيا حتى يكون لدى ما يكفينى منها. ولذلك فأنا قارئ جيد جدا لقصصى وأستمتع بها أيضا».
من ناحية أخرى، كان نصب عينيه دائما أنه يكتب لشرائح عمرية معينة، ومن ثم يبغى أهدافا تثقيفية متعددة؛
أولها: أن تكون «القراءة» سلوكا محببا ومرغوبا فيه لدى الشباب بدءا من سن الثانية عشرة فما فوق، وأن تصبح القراءة كفعل طقس يومى مثل الأكل والشرب.. وثانيا: أن تكون عملية «القراءة» هذه ممتعة ومثيرة ومسلية، فضلا عن أن تكون مضمنة بقدر لا بأس به من الإشارات إلى مواد معرفية متنوعة؛ فى الطب والفلك والنجوم والكواكب، فى التحليل النفسى والاجتماع، فى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، فى التاريخ والأدب.. إلخ.
وثالثا: أن تكون قراءة هذه الأعمال (أعمال الجيب) مرحلة تقود إلى مرحلة تالية ينتقل إليها الشاب/ الشابة لقراءة أشكال وأنواع أخرى مختلفة من الأدب. يعلن ذلك بوضوح «لاحظت أن الأدب العربى رغم تنوعه إلا أنه محدود القراء فعمدت إلى هذه الخلطة فى قصصى والتى تعتمد على مزج الأدب بالمغامرة، شىء يمكن أن تطلق عليه «تأديب المغامرة» أو«تغمير الأدب».
تمنيتُ كثيرا ومنذ سنوات أن أكتب عن الدور العظيم الذى لعبه هذا الرجل (مع نبيل فاروق ومن قبلهما المرحوم محمود سالم) طيلة ربع القرن، كان ظاهرة حقيقية وعظيمة، ولم يطلب لنفسه أبدا أى مكانة أو ادعاء أكثر من أنه يفعل ما يحبه. يحب أن يكتب بهذه الطريقة، ويجد ما يكتبه سبيله فى قلوب محبيه وقرائه من الناشئة والشباب، يكفى أن كتاباته فى مجال الرعب والإثارة والخيال العلمى كانت العتبة الأولى والسحرية لملايين الشباب فى مصر والعالم العربى كى تكون القراءة سلوكا وطقسا فى حياة هؤلاء.
بين أحمد خالد وكتابته أوجه تشابه وتماثل لا تخفى على البصير: فوراء تواضعه اللطيف ثقافة واسعة وغير مصطنعة، ووراء ضعفه البادى وإرهاقه الملازم فضول متيقظ وذهن متقد يصطاد التفاصيل، وخلف صوته الهادئ الخفيض مرارة ملازمة وشجن فطرى.
قبل عامين، وبالتحديد فى 2016 حينما فازت روايته «مثل إيكاروس» بجائزة الإبداع فى معرض الشارقة الدولى للكتاب، كتبت بالحرف: «بالتأكيد، يمثل أحمد خالد توفيق وكتاباته وتأثيره واسع المدى ظاهرة حقيقية جديرة بالبحث، وتشكل تجربته فى مجملها مادة ثرية للباحثين فى علم اجتماع الأدب، ونظريات القراءة والتلقى واستجابة القارئ، والمهتمين بأشكال الكتابة البوليسية وكتابة الرعب».
لكنى أضيف على ما سبق، ليس فقط المتخصصون فى علم اجتماع الأدب هم الذين سيجدون فى تجربة أحمد خالد توفيق ما يستحق الدراسة والبحث، ولكن علماء الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا سيجدون فى تجربته الإنسانية وعلاقته العاطفية المخلصة بأجيال وأجيال من الشباب، تراوحت أعمارهم بين الثانية عشرة والأربعين، ما يجب أن يشغلهم ويجعلهم يعكفون طويلا للبحث عن: لماذا كل هذا الحب؟
رحم الله الرجل الطيب النبيل والإنسان الوديع المسالم أحمد خالد توفيق.