كرامات الميكروباص
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 6 أبريل 2021 - 8:25 م
بتوقيت القاهرة
امتلك سيارة منذ سنوات طويلة ولا أزال غير متحمس لقيادتها، منحازا لفكرة رسخها عندى يحيى حقى الذى كان يحب ركوب المواصلات العامة، ليتأمل فى الوجوه وليظل لديه ميزانه الحساس لتقدير ما يشعر به الناس وما يفكرون فيه، كان الراحل يراقب فى المواصلات مسارات تطور اللغة وشئون الحياة لذلك بدت كتاباته دائما منجما وكنزا نادرا فى هذا الموضوع وأنا أقرأها بعين المؤرخ الناظر فى مقتنيات متاحف الحياة اليومية وأدواتها فهو مثلا الوحيد الذى كان بإمكانه ان يتوقف داخل نص أدبى لتفسير معنى «شاى ميزة» الذى نسمعه فى المقاهى دون أن نفهم معناه.
ومن بين مئات الحكايات التى كتبها استقرت فى ذهنى حكاية طريفة رواها الأستاذ سامى فريد فى كتابه (يحيى حقى الذى أعرفه صورة الفنان من قريب) وهو بالمناسبة من أجمل الكتب التى قرأتها عن صاحب (كناسة الدكان).
ففى أول يوم عمل فيه سكرتيرا لتحرير مجلة المجلة نزل مع الاستاذ يحيى حقى من المكتب، وسار معه متوقعا أن تنتهى الرحلة عند أول جراج ليستقل منه حقى سيارته الخاصة الا أنه طلب من سامى أن يمشى معه إلى محطة ترام مصر الجديدة وهم فريد لشراء تذكرة فى الدرجة الأولى فى حين أصر حقى على ان تكون تذكرته فى الدرجة الثالثة وظل يراقب الحوار الذى كان يجرى بين سيدتين بسيطتين ويتأمل ملامحهما لدرجة أغضبت إحداهما وكادت تسمعه أبشع الالفاظ، لولا تدخل الأستاذ سامى الذى فهم من يحيى حقى أن المواصلات هى مسرح الحياة فى مصر وترمومتر قياس لدرجة حرارته ومع تعاقب السنوات أقنعت نفسى بالفكرة. رغم معرفتى باختلاف زماننا عن زمنه، فقد كانت القاهرة حتى أواخر الستينيات حين كان يعمل عاصمة محتملة، وزحامها من النوع المقبول، لكن الصورة تغيرت بعد ذلك وتحولت الميكروباصات إلى وسيلة نقل رئيسية تنهض بالمهام التى تقاعست مواصلات الدولة عن أدائها ونشأ التعبير الشائع عن «ثقافة الميكروباص» وهو توصيف يوحى بالتدنى ويعطى مؤشرات عن بعض التشوهات المجتمعية فى السلوك واشاعة أنماط من الغناء المهمش وأزعم أنه مع الامتداد العمرانى للقاهرة وظهور مدن الأطراف فى أكتوبر وزايد ثم التجمع والشروق تغيرت فئات الركاب وبالمثل فئات السائقين.
وصار بإمكان الركاب وأنا أحدهم الاستمتاع بلحظات خالدة تبقى مثل ومضات مشعة، منها مثلا لحظات «لم الأجرة» وهى تضامنية بامتياز وفيها يمكن ان تسمع انكار السائق لوجود فكة واصرار الراكب فى الحصول على «ربع جنيه» بقية الأجرة وما أن تنتهى العركة مع السائق يبدأ تراضى الركاب فى اقتسام الباقى حيث يبدى كل راكب استعداده للتنازل لصالح راكب آخر وهى لحظة تعقبها ابتسامات متبادلة ولحظات صمت تغمر الجميع وفى كتاب «فيصل تحرير أيام الديسك والميكروباص» للكاتب الكبير حمدى عبدالرحيم الكثير الذى يفيد فى تأكيد الفكرة.
وذات مرة وكنت فى طريقى للإسكندرية ظل الشاب الذى يجاورنى فى المقعد الأخير يغالب النوم ويلقى بجسده المتعب على مجاوريه جميعا وبالتساوى، حتى ادار السائق أسطوانة تحمل صوت جورج وسوف يغنى ليل العاشقين فاستيقظ من يجاورنى وبدأ الغناء خلف «أبو وديع» بنشوة حقيقة بدلت إرهاقه بابتسامة ظلت معه إلى أن وصلنا.
أفكر كثيرا فى مثل تلك اللحظة المدهشة وأنتظرها كهبة أو منحة فيض سماوى، وكثيرا ما يلح على من يتابعون صفحتى على مواقع التواصل الاجتماعى توثيق ما أعيشه مع سائقى التاكسى خلال الاوقات المتأخرة من الليل فقد اكتشفت أن أغلب هؤلاء من عشاق الست بحكم العادة وكثيرا ما تساءلت كيف يمضون أوقاتهم من دون صوتها ولعلك لن تصدق أن أحدهم وانا استمع معه لأغنية جددت حبك ليه؟ ظل يحكى لى أنه كان يصالح زوجته بهذه الاغنية وبعد وفاتها لا تزال ابنته تستعمل نفس الشفرة السحرية لحل ازماتها معه وقبل أن يصل بى إلى البيت ظل يبكى فى وصلة حزن محترمة رأيت أنه من الواجب اقتسامها معه على مقهى قريب ولما شرب الشاى والشيشة المحترمة رفض أن يأخذ أجرة وكانت كبيرة.
وهناك سائق آخر استمع لى وأنا اسخر من أفكار صديق حول ملف صحفى كان يعده حول الشاعر قنسطنطين كفافيس وعندما انتهيت من المكالمة استسمحنى السائق الشاب بأدب بالغ وظل يحكى معى لما يقرب من نصف ساعة عن شغفه بشعر كفافيس وقارن بين الترجمات المختلفة التى ظهرت لأشعاره ومن المفهوم طبعا أنه شاب جامعى لم يجد عملا يلائم قدراته وقد استأذتته فى التقاط صورة معه وبث فيديو يظهر هذا الشغف لأثبت للناس «كرامات الميكروباص».