الاحتجاجات الجامعية والديمقراطية الأمريكية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 6 مايو 2024 - 6:35 م
بتوقيت القاهرة
تشكل انتفاضة الجامعات الأمريكية امتدادًا لصحوة جماهيرية، ترتد جذورها إلى نهاية ستينيات القرن الماضى، مع انفجار تظاهرات شعبية وطلابية متمسكة بالحقوق المدنية، ومناهضة للحرب الأمريكية فى فيتنام. ثم ما لبثت أن تأججت جذوتها، قبل سنوات، من لدن تيارات مدنية، ليبرالية، تقدمية وحقوقية؛ تخللتها حركة نسوية تتحدى خطابًا يمينيًا موغلًا فى المحافظة، حتى تكللت بانتفاضة، جورج فلويد، وحراك «حياة السود مهمة».
يأتى الحراك الطلابى الأمريكى، الذى أضحى عالميًا، قبل ستة أشهر من الاستحقاق الرئاسى المرتقب، وسط استقطاب سياسى حاد، ومنافسة شرسة بين الرئيس الحالى، بايدن، ومنافسه الجمهورى، والرئيس السابق، ترامب. حيث يتبارى الرجلان فى استثمار الاحتجاجات انتخابيا، آملين فى تحقيق معادلة صعبة، تتمثل فى ضرورة استرضاء إسرائيل واللوبى الصهيونى، مع الاحتفاظ بأصوات الشباب الأمريكى الغاضب من استمرار العدوان الإسرائيلى على غزة.
لم يتسنَ للرئيس، بايدن، التزام الصمت حيال الاحتجاجات الطلابية، مثلما فعل عام 1968 . ففى تناقض فج مع تعهده إبان حملته الرئاسية عام 2020، باستعادة الحياة الطبيعية؛ أبدى تفهمًا للنهج القمعى فى التعاطى مع الاحتجاجات، التى أكد أنها لنّ تغيّر سياسته حيال إسرائيل، التى جدد دعمه غير المحدود لها. بدورهم، حذّر خبراء من أن تواطؤ، بايدن، مع العدوان الإسرائيلى على الفلسطينيين، يمكن أن يؤثر سلبًا على تصويت الشباب لصالحه، ويضر بفرص إعادة انتخابه. لا سيما أنه اعتمد فى حسم السباق الانتخابى عام 2020 لمصلحته، على الشباب، والأمريكيين العرب والمسلمين.
ما كادت حركة «غير ملتزم» تتضامن معه، حتى تملكت دوائر أمريكية مخاوف من خروج الحراك الطلابى المتفاقم، عن السيطرة، بحيث يلتحم مع الشارع، ويتحول إلى طوفان شعبى هادر، يستقطب حركات مدنية نشطة. ذلك أن القمع العنيف للاحتجاجات الجامعية لن يفضى إلى إخمادها، بقدر ما يمكن أن يؤدى إلى إطالة أمدها وتوسيع نطاقها؛ كونها ستتحول إلى قضية حقوق مدنية أو مسألة حرية تعبير.
وضع تحول إدارة، بايدن، من الانحياز الأعمى لإسرائيل، إلى الشراكة الميدانية والسياسية فيما تقترفه من جرائم حرب، إبادة وتطهير عرقى؛ ثم تبريره قمع الاحتجاجات الطلابية الرافضة لنهجه ذاك، الرئيس الأمريكى والمرشح الرئاسى الديمقراطى، فى مرمى انتقادات الناخبين الشباب. فلقد أظهرت أحدث استطلاعات الرأى تراجعا لافتا فى مستوى دعمهم لبايدن، منذ عام 2020. وفى منتصف أبريل الماضى، أظهر استطلاع رأى أجرته، جامعة هارفارد، تقدم، بايدن، على منافسه، ترمب، بثمانى نقاط مئوية فقط بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا. إذ يحظى بواقع 45% من نوايا التصويت، مقابل 37% لترمب، فى حين كان يسبقه بـ23 نقطة عام 2020. وفى نفس الاستطلاع، أعلن 51% من الشباب تأييدهم وقفًا دائمًا لإطلاق النار فى غزة، بينما ارتأى ما يقرب من 60% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا، أن بلادهم تمضى فى المسار الخاطئ. ومع تأخره بفارق ضئيل عن، ترمب، فى ولايات متأرجحة رئيسية شتى، يغدو تصويت الشباب لغير صالح، بايدن، أمرًا غير محمود العواقب.
عززت نتائج الانتخابات البلدية البريطانية الحالية، مخاوف بايدن من تداعيات خسارته أصوات الشباب والأمريكيين العرب والمسلمين. حيث أفضى استياء قطاع عريض من قاعدة حزب العمال البريطانى، جراء امتناع قيادات الحزب عن إدانة العدوان الإسرائيلى على غزة، أو المطالبة بوقف مستدام لإطلاق النار، إلى دفعهم لمنح أصواتهم لمرشحين مستقلين أو ممثلين لأحزاب صغيرة، أو الامتناع عن التصويت. وقد أقر مسئولون بارزون فى حزب العمال بالتأثير السلبى المباشر لهذا الأمر على نتائج الاقتراع ببعض الدوائر المحلية، كما حظوظهم الانتخابية خلال الاستحقاق البرلمانى فى الخريف المقبل.
خلافا للنبض الشعبى، لا يتورع الموقف الرسمى الأمريكى عن الإمعان فى دعم أشد الحكومات الإسرائيلية تطرفا. ففى حين يفاخر الرئيس، بايدن، بأنه «صهيونى»، وينقل عن والده قوله: «ليس من الضرورى أن يكون المرء يهوديًا لكى يكون صهيونيًا»، يجاهر وزير خارجيته، أنتونى بلينكن، أثناء زيارته لإسرائيل فى أعقاب عملية «طوفان الأقصى»، أنه جاء بصفته يهودى. أما الرئيس السابق، دونالد ترمب، الذى ينشد العودة إلى البيت الأبيض، فيفاخر بأنه نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، كما اعترف بضم إسرائيل الجولان السورى المحتل، وهندسة «اتفاقات أبراهام» بينها وبين ودول عربية.
فى تكرار لخطأ التعاطى الرسمى مع حرب فيتنام، وفى مشهد يبرز عجز، بايدن، عن إحداث توازن بين احترامه لحرية التعبير، وحاجته للاحتفاظ بدعم إسرائيل واللوبى الصهيونى، على مشارف الانتخابات الرئاسية المرتقبة؛ أقر مجلس النواب الأمريكى تعديلا، اقترحه ما يسمى بـ"التحالف الدولى لإحياء ذكرى المحرقة"، بشأن توسيع تعريف مصطلح «معاداة السامية»، بحيث تغدو تصوّرا معيّنا لليهود، يمكن أن يتجلّى فى كراهية تجاههم. إذ تستهدف المظاهر الخطابية والمادية لمعاداة السامية، أفرادًا يهودًا، أو غير يهود، و/أو ممتلكاتهم ومؤسسات مجتمعية وأماكن عبادة. ورغم مشاركة طلاب يهود فيها، لم يراع سياسيون أمريكيون عن اتهام المتظاهرين فى الجامعات بـ«معاداة السامية». ويستدلّون على ذلك، من بين أمور أخرى، برفعهم شعارات مناهضة لإسرائيل، الحليف الأقرب للولايات المتّحدة فى الشرق الأوسط. للقانون، وبينما يتعيّن على مجلس الشيوخ اعتماده، قبل أن يحال إلى الرئيس، جو بايدن، لتوقيعه ونشره، حتى يصبح تشريعًا ساريًا، يرى منتقدو مشروع القانون أنّ التعريف الجديد يحظر انتقادات معيّنة لدولة إسرائيل. كما يتّهمون النواب الذين أقروه، باستخدامه لتقييد حرية التعبير داخل الجامعات. ولفت النائب الديمقراطى جيرى نادلر، إلى أنّ التعليقات التى تنتقد إسرائيل لا يمكن أن تشكّل، بحدّ ذاتها، تمييزًا مخالفًا للقانون.
مع تعثر إدراك اتفاق هدنة بين إسرائيل وحماس، بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات داخل الجامعات الأمريكية؛ ربما يعقد الديمقراطيون مؤتمرهم الوطنى بشيكاغو فى أغسطس المقبل، وسط مشهد استقطابى حاد. وبينما سيتخلله إعلان الحزب تسمية، بايدن، رسميًا مرشحًا رئاسيًا ديمقراطيًا، يستحضر الأمريكيون حدثًا مؤلمًا فى عام 1968. فوقتذاك، طغت الفوضى والممارسات العنيفة على مؤتمر ديمقراطى مماثل، استضافته المدينة ذاتها، على وقع اضطرابات أعقبت اغتيال، مارتن لوثر كينغ جونيور، والمرشح الرئاسى، روبرت كينيدى، القمع العنيف لحركة الحقوق المدنية، والحرب الملتهبة فى فيتنام. ورغم اضطرار الرئيس المنتهية ولايته، حينئذ، ليندون جونسون، للعدول عن الترشح، لم تمضِ أسابيع، حتى خسر نائبه، والمرشح الديمقراطى، هيوبرت همفرى، الماراثون الرئاسى أمام منافسه الجمهورى ريتشارد نيكسون.
ليست أزمة الديمقراطية الأمريكية، وليدة الانتقادات الحقوقية، التى باتت تنهال عليها من أوساط محلية ودوائر عالمية، مستنكرة تعاطى الأجهزة الإدارية والأمنية مع الحراك الطلابى الراهن. فلقد تجلت، مسبقًا، فى تشكيك، ترامب، بنزاهة الانتخابات الرئاسية لعام 2020، ورفضه الاعتراف بنتائجها، ومباركته أعمال شغب، تضمنت الهجوم على مبنى الكابيتول. ثم تهديده اليوم، بتكرار نفس السيناريو مع الانتخابات المزمع إجراؤها فى نوفمبر المقبل، حالة خسارته إياها. لذا، لم يكن مستغربًا، أن يتحدى طلبة الجامعات سلطات بلادهم، بعد رفضها منحهم تصاريح بالتظاهر، إقامة المخيمات والاعتصام داخل الحرم الجامعى. فيما لم يكن صادما، جنوح الأجهزة الأمنية لقمع احتجاجاتهم السلمية. حيث نفذت الشرطة منذ منتصف أبريل الفائت، عمليات توقيف فى أكثر من خمسين حرمًا جامعيًا على الأقل. وجاءت صور الانقضاض على الطلبة والأساتذة الجامعيين، واعتقال الآلاف منهم، والتهديد بفصل المئات، وفقا لتقرير صحيفة «الواشنطن بوست»، شبيهة بصورة المواطن الأمريكى الأسود، فلويد، بينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، تحت قدمى شرطى أبيض مسكون بالعنصرية والاستعلاء.