السياسة الخارجية تبدأ فى الداخل
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 6 يونيو 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
فى عام 1944، وبينما الحرب العالمية الثانية عند الذروة، نشر جيمس ووربيرج Warburg James كتابا بعنوان «السياسة الخارجية تبدأ فى الداخل». لم يكن خافيا فى ذلك الحين، بخاصة على مجموعة المستشارين القريبين من الرئيس روزفلت، أن أمريكا سوف تخرج من الحرب منتصرة، ولكن مختلفة أشد الاختلاف عن أمريكا التى دخلت الحرب.
أشفق بعض هؤلاء على الحريات التى كان يتمتع بها المواطنون قبل الحرب وتعرضت للحصار خلال الحرب. وأدرك البعض الآخر خطورة ما طرأ على الرأسمالية الأمريكية من تحولات بسبب حاجات الحرب والإنفاق الهائل والحراك الكبير فى سوق العمل والاستثمار، فكانت النصيحة الشهيرة التى رددها الكثيرون بعد أن وردت فى كتاب ووربيرج، «ما لم تصلح أمريكا رأسماليتها، وتقيم رأسمالية ديمقراطية، سوف ينشأ فى الولايات المتحدة نظام يأخذ شكلا من أشكال الديكتاتورية الفاشية».
●●●
قبل أيام صدر لريتشارد هاس مدير التخطيط الأسبق فى الخارجية الأمريكية والرئيس الحالى لمجلس الشئون الخارجية كتاب يحمل العنوان نفسه الذى حمله كتاب ووربيرج قبل 69 عاما «السياسة الخارجية تبدأ فى الداخل». لم يخطر على بال أحد الاحتمال بأن تطابق العنوانين مصادفة، بل كان رأيى، وأعرف آخرين شاركونى هذا الرأى، أن هاس ما كان يأتى بالحجج التى جمعها لدعم موقفه المعلن فى عنوان الكتاب، لو لم تكن أحوال أمريكا قد وصلت إلى حد أثار القلق لدى كبار مفكريها والحريصين على مستقبلها.
يلخص هاس موقفه فى عبارة ذات مغزى. يقول إن أمريكا ضاعفت التزاماتها الخارجية بعد حادثة تفجير برجى نيويورك فى 2011، وأهملت أسس قوتها. من ناحيتنا نذكر جيدا أن السيناتور أوباما فى حملته الانتخابية لمنصب رئاسة الجمهورية عام 2007، اختار الشعار «لقد جاء وقت التركيز على بناء الأمة هنا فى الداخل». بمعنى آخر اتفق رأى الباحث الاستراتيجى مع رأى مرشح رئاسة الجمهورية، أى مع رجل السياسة، على أن أمريكا فى حاجة ماسة إلى إعادة التعمير وتعزيز أسس قوتها كأولويات تسبق التصدى لأى تحديات خارجية.
يحدد رتشارد هاس النقاط الأساسية فى البرنامج الذى يطرحه فى أربع على الأقل هى:
1ــ تخفيض وتخفيف آثار أقدام أمريكا وبصماتها فى ساحة السياسة الخارجية.
2 ــ حل أزمة الديون المتصاعدة.
3 ــ الدخول فى مواجهة حادة مع نظام التعليم السائد.
4 حل مشكلات البنية التحتية وغيرها من مشكلات الداخل الأمريكى، وأغلبها مشكلات حادة تهدد النمو الاقتصادى والسلامة الاجتماعية والصحية.
المهم فى نظر هاس تحقيق توافق شعبى عام حول الحاجة الماسة إلى ترميم أمريكا وإحيائها. أما قائمة المشكلات الداخلية التى يتعين إصلاحها فورا فطويلة إلى درجة أن كثيرين فى أمريكا قرروا أن هاس يبالغ، وربما أساء بنشر هذه القائمة دون أن يقصد إلى «أسس» القوة الأمريكية التى يدعو هو نفسه إلى إنقاذها. أحد هؤلاء استخدم تعبير «المانيفستو» فى وصف نداء هاس الداعى إلى التركيز فورا على الشئون الداخلية، وبخاصة قوله إنه بدون حيوية ثقافية واقتصادية فى الداخل لن تستطيع الولايات المتحدة الدفاع عن قيمها فى الخارج.
●●●
يعلق معلقون يمينيون على هاس تارة بالقول إنه متأثر بالطرح النظرى الذى تهتم به مراكز البحوث والعصف الفكرى، وتارة بأنه لم يأتِ بجديد، إلا قليلا. فقد كرر أفكارا من نوع العولمة واستخدم عبارات ذات طابع إنشائى مثل مرحبا بالشتاء العربى، والتاريخ لم يغادر، وصعود الصين علامة العصر، وعصر تمكين الأفراد والجماعات، وعالم ما بعد أوروبا، وعالم بدون أقطاب.. إلخ. يردون على قوله إن أمريكا تعيش الآن مرحلة نادرة إذ لا خطر حقيقيا يتهددها من أى مكان أو جهة فى العالم، فيقولون هل كان يمكن أن يتحقق هذا الهدوء لو لم تستخدم الولايات المتحدة سياسات هيمنة عسكرية وتدخلت فى شئون الدول الأخرى حماية للحريات والقيم العالمية.. وهى السياسات التى يدعو الكتاب للتخلى عنها.
●●●
أثار هاس بكتابه هذا نقاشا جديدا حول كتاب نشره هنرى كيسنجر فى ربيع عام 2001 وكان عنوانه «هل أمريكا فى حاجة لسياسة خارجية؟ وقتها، أى قبل 12 عاما، استسخف المعلقون العنوان ووصفوه بأنه على الأقل غريب. هل توقع كيسنجر أن يخرج من يجيب بالنفى، وأن أمريكا ليست فى حاجة لسياسة خارجية؟ المثير فى الموضوع هو أنه بصدور كتاب ريتشارد هاس والمقالات والدراسات التى تناقش تطور السياسة الخارجية فى عهد أوباما، عاد معلقون يعترفون أن خلاصة سياسات أوباما الخارجية والدفاعية أجابت فعلا بالنفى. أمريكا ليست فى حاجة إلى سياسة خارجية.
جاء إلى الحوار الدائر من قال إن السؤال كان يحمل نبوءة كيسنجرية، بدا الرجل وكأنه كان يتوقع أن يأتى رئيس لأمريكا يقرر أن الاهتمام بالداخل أهم من الاهتمام بالخارج، وأن أمريكا ليست مسئولة عن منظومة القيم العالمية وليست مكلفة بالدخول فى حروب تحت شعار التدخل لاعتبارات إنسانية.
●●●
يعترف أكثر من خبير فى السياسة الخارجية الأمريكية بأن أمريكا لم تعد قادرة على السيطرة على جميع القضايا العالمية فى وقت واحد، كما كانت تفعل، لذلك توقفت عن عمل الكثير.. هى الآن لا تفعل الكثير، تفعل الحد الأدنى. والأمثلة عديدة ومتنوعة، وأحيانا متناقضة كما فى المثالين الليبى والسورى، وكما استجد فى الملفين العراقى والأفغانى، وكما فى المواقف من عمليات الإبادة أو القتل الجماعى. أضف إلى ما سبق العجز النسبى عن الحركة والفعل وهو ما أوقع السياسة الأمريكية فى سلسلة من الأخطاء المحرجة دوليا، مثل معتقل جوانتانامو وقضايا التنصت على المواطنين والتعذيب وقضية الاغتيال السياسى لمواطنين أمريكيين باستخدام طائرات بدون طيار. أضف أيضا الموقف من روسيا والتخبط فى أفريقيا والشلل فى الشرق الأوسط.
●●●
الخطأ، فى رأى كسينجر ومن قبله ووربيرج ومن بعده ريتشارد هاس، هو أن الولايات المتحدة توسعت فى محاولات فرض هيمنتها العسكرية على أقاليم كثيرة فى الخارج، وبالغت فى استخدام مبدأ القيم الأخلاقية، كالحقوق والحريات كأداة للهيمنة السياسية والاقتصادية، حتى جاء وقت لم تعد إمكانات أمريكا وبنيتها التحتية فى الداخل قادرة على خلق أسس جديدة للقوة، أو دعم وإحياء الأسس التقليدية.
النقاش لم ينقطع ولن ينقطع حتى تتشكل لأمريكا رؤية مختلفة عن دورها وأولوياتها، وبعدها يبدأ نقاش جديد.