تغير السلوك فى انتظار تغير الظروف
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 6 يونيو 2018 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
فى كل عام يكثر الحديث وتكثر الكتابات عما يحيط بشهر رمضان من ممارسات وسلوكيات وأفهام خاطئة، لكن الأزمنة والقرون تتوالى دون أى تغيير أو تعديل أو تجاوز فى ممارسات وسلوكيات المجتمعات والبشر. يظل الزمن واقفا، وتستعصى العادات على المنطق وعلى دروس التقدم الحضارى.
يبدأ ذلك المشهد بالاختلاف حول بداية الشهر: أيعتمد على رؤية الهلال أم يستفاد من حسابات العلوم الفلكية المعتمدة على العلم ومنطق الحساب الصارم ودقة أجهزة المراقبة من الأرض وخارج الأرض؟ ويتسابق الفقهاء فى تحديد هذا اليوم أو ذاك وهم الذين أغلبيتهم الساحقة لا تعرف شيئا عن علوم الفلك البالغة التطور.
ثم يأتى فهم الإنسان المسلم العادى لموضوع الصيام برمته: أهو مناسبة هدوء روحى وصفاء نفس أم هو مناسبة صخب فولكلورى فى المطاعم والشوارع والمجالس حتى ساعات الصباح الباكرة؟ أهو تذكير للإنسان بما يفعله الجوع بالفقراء والمعوزين والإخوة فى الإنسانية، أم هو مناسبة للتخمة والابتذال فى التبذير وعدم إغلاق الفم طيلة الليل؟ أمسيات هذا الشهر هى لااقتراب أكثر من خالق الكون من خلال العبادة الواعية المستوعبة للمقاصد الإلهية من هذا الخلق ومن خلال بناء الإرادة الواعية لتصحيح الضعف الإنسانى وشهوات الجسد والنفس والعقل أم أنها أمسيات لرؤية مسلسلات تليفزيونية بالغة السوء فى مستوياتها الثقافية والفنية الرفيعة، وللانبهار بسيل من الإعلانات الصاخبة الكاذبة المتلاعبة بالذوق وبالسلوك وبالذهن؟
ثم ماذا عن انتهازية تلاوة القرآن خلال رمضان بسرعات جنوبية، دون فهم ولا تمعن، وليس قراءته بهدوء واستيعاب ووعى، ثم إهماله جانبا بقية السنة؟ أضف إلى ذلك الألوف من الأسئلة التفصيلية العبثية التى يسألها الناس عما يخدش الصيام بما يظهر إلى أى مدى تنقلب هذه المناسبة إلى مخاوف لا مبرر لها وإلى رعب متزمت متخلف.
وفى المحصلة يشعر الإنسان بأن الوعى الجمعى لمعانى وأهداف هذا الشهر فى المجتمعات الإسلامية يبتره عن باقى الشهور. لكأن الشعور ببؤس الآخرين ومساعدة الجياع والقيام بالشعائر الدينية الحقة الصادقة ليس ضروريا للإنسان المسلم إلا فى شهر الصيام، وبعدها يعود الإنسان إلى حياة وممارسات وسلوكيات آسنة.
التعامل مع رمضان، الذى يعيد نفسه سنة بعد سنة وقرنا بعد قرن، هو مماثل للتعامل مع مواضيع السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة فى بلاد العرب. إنه مغالبة لتطور الأزمنة وتبدل الظروف واكتشافات المعرفة والعلوم.
***
نحن أمام ظاهرة متجذرة عصية بالرغم من أن أسبابها الكثيرة قد درست باستفاضة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبالرغم من أن مكامن الخلل قد أشير إليها فى ألوف الكتب، وبالرغم من أن الحلول المعقولة قد اقترحت، بل وأنها نجحت فى كثير من المجتمعات الأخرى وأصبحت تجارب إنسانية ماثلة أمامنا.
لا يمكن أن يكون الخلل فى الدين، فهو دين عقلانى، يرفض أن يبقى الناس على دين آبائهم دون تفكر ومراجعة وتجديد، ويحث على إعمار الحياة وحمل المسئولية نحو الأرض ومن عليها، ويثور على الظلم والاستغلال الأنانى الجشع.
لا يمكن أن يكون الخلل فى العقل العربى، فقد أثبتت الدراسات الكثيرة أنه عقل نقدى وجدلى يمارس النظرة الشمولية، وله إرث فكرى تاريخى يشهد على ذلك.
وإذن فالقضية تكمن فى مكان آخر: إنها تكمن فى النشأة الأسرية، وفى التعليم المتخلف، وفى الاستبداد المدمر للشخصية السوية، وفى تكالب الإحن والمحن الخارجية على مقدراته وحريته وكرامته الإنسانية، وفى فقهاء الدين المتزمتين المتخلفين فى قراءاتهم للنصوص الدينية، وفى الاقتصاد الريعى الذى جعل من الناس رعايا مقلدين بدلا من كونهم مواطنين أحرارا مستقلين وفاعلين.
وحتى عندما ينجح الإنسان العربى فى أن يثور على كل ذلك وينتقل إلى نظام جديد ليعيد له توازنه وشعوره بالكرامة وقدرته على الاستقلالية فى الفكر، تتكالب عليه قوى الشر لتمنعه. وخير مثال هو ما حدث فى تونس. فما إن نجح المواطنون فى تونس فى الخروج من أوضاعهم السيئة السابقة حتى تكالب على مجتمعهم إرهابيون مرتبطون بالاستخبارات والمصالح الخارجية والداخلية ليدمروا السياحة ويطردوا الاستثمارات ويمنعوا بالتالى النمو الاقتصادى فى ذلك البلد. إنها حلقة فى سلسلة من الحقارات والمؤامرات التى لا تريد للإنسان العربى أن يخرج من حالات التخلف الحضارى التى يعيشها.
***
يسأل الإنسان نفسه: هل هذا الإنسان العربى، الذى ما إن يخرج من محنة إلا ويدخل فى محنة أخرى، سيكون لديه الوقت والجهد ليفكر فى تعديل مسارات سلوكياته وعاداته، كما هو الحال بالنسبة لشهر رمضان؟ إن المجتمعات البشرية قد تغيرت إما من خلال ثورات جذرية عاتية أو من خلال سلام مجتمعى طويل الأمد.
بالنسبة للإنسان العربى لم تمر مجتمعاته فى أى من الحالتين، ولذا يبقى واقفا متعبا أمام تحرك الأزمنة.
dramfakhro@gmail.com