الحرب في عصر الذكاء الاصطناعي
قضايا تكنولوجية
آخر تحديث:
الجمعة 6 يونيو 2025 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
فى صورة تعكس لنا كيف أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعى والمُسيرات قادرة على تغيير قواعد الحرب، تمكنت أوكرانيا باستخدام عشرات الدرونز زهيدة الثمن من تعطيل قاذفات استراتيجية تُقدّر قيمتها بمليارات الدولارات فى قلب العمق الروسى، قاصدة قواعد تبعد آلاف الكيلومترات عن كييف فيما يُعرف بـ«التفوّق الجغرافى البديل»؛ حيث لا يهم أين يقع الهدف بقدر ما يهم هل يمكن الوصول إليه بأسلوب غير تقليدى. حدث ذلك دون الحاجة إلى إطلاق صواريخ بعيدة المدى أو استخدام طائرات ضخمة، فقط أكواخ خشبية بأسقف قابلة للفتح ذاتيًا محملة على شاحنات، انطلقت منها عشرات المسيرات نحو أهدافها متجاوزة أنظمة الدفاع الجوى الروسى.
وعلى الرغم من تفوق روسيا كمًا وكيفًا منذ بداية الحرب، فإن هذه العملية تظهر كيف أن الدرونز والذكاء الاصطناعى قادر على ترجيح كفة الطرف الأضعف والأقل من حيث القوة التدميرية، بما يعيد تعريف مفهوم «الردع»، ليصبح القدرة على استهداف نقاط ضعف العدو بذكاء وتكلفة منخفضة، وليس فقط امتلاك القوة المماثلة؛ فقد أثبتت هذه الحادثة أن روسيا غير قادرة على حماية عمقها الاستراتيجى، رغم تفوقها العددى والتقنى.
• • •
فى عملية يُقال إنها استغرقت 18 شهرًا من التحضير، تم تهريب عشرات الطائرات المسيّرة الصغيرة إلى داخل روسيا، حيث خُزّنت فى مقصورات خاصة داخل شاحنات نقل، ثم نُقلت إلى ما لا يقل عن أربعة مواقع مختلفة، تفصل بينها آلاف الكيلومترات، لتُطلق لاحقًا عن بُعد من المسافة صفر باتجاه قواعد جوية قريبة، واستطاعت أن تدمر نحو 34% من حاملات صواريخ كروز الاستراتيجية حسب تصريحات الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى.
وقد استهدفت هذه المسيرات اثنتين من القواعد الجوية، فحسب بيان وزارة الدفاع الروسية: «أدى إطلاق طائرات مسيّرة انتحارية من مواقع قريبة جدًا من مطارات منطقتى مورمانسك وإيركوتسك إلى اشتعال النيران فى عدد من الطائرات».
وقد تمت عملية شبكة العنكبوت (Spider's Web) ــ كما تمت تسميتها ــ على عدة مراحل، كانت المرحلة الأولى هى مرحلة تهريب الطائرات المسيّرة الصغيرة إلى العمق الروسى عبر مراحل زمنية متقطعة، بعيدة عن أى نمط يمكن رصده. ولتفادى أعين الرصد والمراقبة، تم إخفاء هذه الطائرات داخل هياكل خشبية بدائية الشكل على هيئة أكواخ صغيرة تم تحميلها على شاحنات نقل تجارية؛ ما منحها غطاءً لوجستياً يخفى غايتها العسكرية.
أما الطائرات المسيرة ذاتها، فهى على الأرجح من طراز FPV (First Person View) وهى نماذج مسيّرة صغيرة الحجم، وخفيفة الوزن، ومجهّزة بكاميرات لبث مباشر، تُدار عن بُعد أو تُبرمج مسبقًا، وتُستخدم عادة فى ضربات انتحارية محددة الأهداف؛ إذ تُزوّد غالبًا برءوس حربية صغيرة؛ لكنها كافية لإتلاف طائرات أو إشعال حرائق داخل منشآت عسكرية حساسة، ويتراوح مداها الجغرافى بين 5 و20 كيلومترًا؛ لذا فقد تم التغلب على هذا التحدى الجغرافى من خلالها تهريبها مسبقًا إلى قرب القواعد الجوية المستهدفة فى الشاحنات.
وبحسب ما ورد فى التقارير الإعلامية الأوكرانية، فإن الخسائر الواردة نتيجة عملية «شبكة العنكبوت» قد تكون كبيرة، وعلى الرغم من صعوبة التحقق من دقة حجم الخسائر؛ فإنها تشير إلى استهداف نحو 41 قاذفة استراتيجية من أصل نحو 120 تمتلكها روسيا، منها Tu-95 وهى قاذفة استراتيجية تستخدم فى الهجمات بعيدة المدى، وTu-22 وهى قاذفة قادرة على ضرب أهداف برية وبحرية، وطائرات رادار من طراز إيه-50. أما الخسارة الأكبر فتتمثل فى القاذفة Tu-160 الأسرع من الصوت، وقد تم تدمير طائرتين منها، وهو ما وصفه أحد المعلقين الأوكرانيين بأنه «خسارة لوحدتين من أندر الطائرات، كأنها أحصنة وحيدة القرن وسط القطيع»، خاصة أن الطائرات Tu-160 وTu-95 لم تعد تُنتج؛ مما يجعل استبدالها شبه مستحيل.
ومن المرجح أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد أسهمت فى التخطيط لهذه العملية، بدافع الضغط على الرئيس الروسى للدخول فى مفاوضات جادة لإنهاء الحرب.
• • •
فى المنظورات التقليدية، كان توازن القوى يُقاس بعدد الدبابات والمقاتلات وحجم الميزانيات العسكرية. أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعى يُدخل عاملاً نوعيًا جديدًا يتمثل فى القدرة على إنشاء جيوش آلية من مركبات غير مأهولة رخيصة التكلفة، فضلاً عن قدراته الأخرى التى تتمثل فى اتخاذ القرار الأسرع والأدق بناءً على تحليل لحظى للبيانات؛ مما يعنى أن الجيوش الأصغر حجمًا تستطيع أن تُعادل أو تتفوّق على قوى أكبر إذا امتلكت أنظمة ذكية لتحليل الحركة، والتوجيه، وتحديد الأهداف؛ أى إن توازن القوة لم يعد مرهونًا بمن يمتلك أكثر؛ بل بمن يفهم أسرع ويتصرف أذكى.
فلم تعد الأفضلية فى التفوق النوعى وحده؛ بل بات العدد الكبير من الوسائل الذكية والمنخفضة الكلفة يشكل بحد ذاته سلاحًا نوعيًا يعجز الخصم التقليدى أحيانًا عن احتوائه، فتحولت المُسيرات إلى «صواريخ كروز» الطرف الضعيف، فهى رخيصة ومتوافرة بكثرة مقارنةً بنظم الدفاع الجوى الكفيلة بإسقاطها أو مقارنة بالأهداف القادرة على إصابتها، فإسقاط طائرة مسيّرة تجارية زهيدة الثمن لا يتعدى ثمنها بضعة آلاف من الدولارات باستخدام صاروخ باتريوت بقيمة 3.4 مليون دولار هو معركة استنزاف، وإن لم تسقط فهى قادرة على تخريب مقاتلات وقاذفات استراتيجية ثمنها عشرات الملايين من الدولارات.
هذا الاختلال الصارخ بين «تكلفة التهديد» و«تكلفة الرد عليه» يكشف عن معضلة استراتيجية لم تجد الجيوش الكبرى بعد حلًا جذريًا لها: كيف يمكن مواجهة سلاح بسيط ومنتشر، دون الإفراط فى استخدام وسائل دفاع باهظة وغير مستدامة. ومن هنا، يتّضح أن الحرب لم تعد تُخاض فقط على أساس من يمتلك السلاح الأقوى؛ بل أيضًا على من يستطيع الإنهاك بأقل تكلفة وأكبر مرونة، وهو بالضبط ما يجعل الطائرات المسيّرة، حين تقترن بالخوارزميات، سلاح المرحلة المقبلة.
هذا التطور يُعيد تعريف مفهوم «التفوق» من خلال «الكم» و«الضخامة» إلى التفوق النوعى، فحينما يمتلك الخصم المزيد من السفن والمزيد من الصواريخ والمزيد من المقاتلين، فى مقابل محدودية الأسلحة والأفراد التى يمتلكها الطرف الآخر؛ تصبح الأسلحة القابلة للتضحية فى هذه الحالة فعالة أمام الكتل الضخمة مرتفعة التكلفة. وفى هذه الحالة تستطيع الجيوش الصغيرة زيادة فاعليتها وتأثيرها أمام الجيوش الضخمة عبر أدوات ذكية ورخيصة، وبالمثل تستطيع الحركات المسلحة والجماعات الإرهابية أن تمتلك ميزة نسبية من خلال هذه التقنيات فى مواجهة الجيوش النظامية؛ مما يغير من معادلة التفوق العسكرى.
كما أن المفهوم التقليدى للردع تأثر أيضًا بتقنيات الذكاء الاصطناعى؛ إذ لم يعد بمقدور أى خصم أن يعرف على وجه اليقين ما الذى يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعى أن تنفّذه وما هى قادرة عليه، فهى تقنيات مربكة لساحة المعركة ولأدوات القتال التقليدية، كما أنها قللت من فاعلية الردع التقليدى؛ لأنها جعلت كلفة الهجوم منخفضة، فحين تتاح وسائل الضرب بتكلفة زهيدة يصبح من السهل المبادرة فيسقط معها الردع؛ ومن ثم أصبحنا أمام بيئة ردعية جديدة، لم تعد تقوم على وضوح العقوبة؛ بل على ضبابية القدرة وتعدّد سيناريوهات التهديد، حيث الخوف لا يأتى مما نعرفه؛ بل مما لا نستطيع التنبؤ به.
وما حدث فى عملية شبكة العنكبوت أثبت مفهوم «شبكية» الحرب؛ أى لامركزيتها، فمجموعة من المسيرات، التى قد يتم تجميعها محليًا، تتحكم فيها مجموعة من الخوارزميات، وتنطلق من شاحنات قد تكون ذاتية القيادة فى مناطق متفرقة من الدولة، وتتوجه لضرب قواعد عسكرية شديدة التأمين أو حتى بنية تحتية حرجة أو اغتيال قادة سياسيين وعسكريين، دون الحاجة إلى وجود مقاتلين على الأرض أو إرسال صواريخ عبر الحدود، وبعد كل ذلك قد لا يتبنى هذه العملية أحد ويظل المتهم الرئيسى هو «الذكاء الاصطناعى».
إيهاب خليفة
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة