حكاية فتاتين
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 6 يوليه 2021 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
تخرجتا فى وقت واحد وبالشهادة نفسها وتقدمتا للعمل فى مؤسسة كنت أديرها. عملتا بالقرب منى خلال فترة الإعداد لشهادة أعلى. كنت فى مثل عمرهما وإن أكبر بسنوات قليلة. مرت فترة التدريب بيسر. لم تكلفانى جهدا مضافا أو مشاق غير متوقعة. لاحظت منذ البداية أننى أدرب فتاتين تشتركان فى رغبة قوية لمعرفة المزيد عن كل شىء يقال أمامهما أو كلفتهما، أنا وغيرى، بقراءته. كثيرا ما كانت إحداهما تعود بعد الدرس لتطلب شرحا أعمق وتأتى الأخرى لتعرض رأيا نقديا فى موقف اتخذته أو مقال كتبته أو محاضرة ألقيتها. أجادا معا وتفوقتا ولفتا اهتمام أشخاص لهم مكانة متميزة فى حقل أو آخر من حقول المعرفة. أذكر أن أحدهم جاء إلى مكتبى ليستأذن فى حجز إحدى الفتاتين فور انتهاء التدريب لتعمل معه أو تحت إشرافه. ثم جاءت سيدة معروفة فى الوسط الثقافى، وبعد أن طلبت من عامل البوفيه إغلاق باب الغرفة بعد تقديم القهوة، نهضت من مقعدها ومشت نحوى حتى اقتربت جدا ثم انحنت لتهمس فى أذنى ببلاغ أنها نجحت فى تدبير منحة دراسية للفتاة الأخرى، وإنها تحاول تدبير منحة ثانية لزميلتها وهى حريصة ألا ينتشر الأمر فيتدخل فيه من تسميهم أعضاء وأنصار جماعة الثلث المعطل. خلال الأسبوع نفسه اتصل رجل «كبير المقام العلمى» يسأل إن كان يمكن للفتاة التى تجيد الفرنسية تخصيص ساعات من وقت فراغها لمساعدته فى الانتهاء من كتابه الذى طال انتظاره، مبديا استعداده تقديم مكافأة مجزية أقترحها أنا وأعرضها بنفسى على الفتاة.
•••
انتهت دورة التدريب وتسلمتا العمل وصارت لهما شعبية فى أوساط الأنشطة البحثية والسياسية. بعد فترة قصيرة حصلتا على المنحتين وسافرتا معا وعادتا معا ليلتحقا بالعمل فى مؤسسة إقليمية يشرف على إدارتها الرجل الكبير الذى سبق أن استفاد من خبرة واحدة منهما. قبل استلام العمل اتصلتا بمكتبى تستأذنان فى زيارة مجاملة بوعد ألا يجوران على وقتى ووقت المكتب. رحبت باقتراح الزيارة وأذكر أنى اشترطت أن تبدأ الزيارة عصرا، أى بعد أن يتحقق الهدوء، وأن تستمر إلى ما بعد تناول العشاء، وأن يتخللها جلسة أسمع فيها منهما سردا مفصلا لما اكتسبتاه من خبرات خارج ساحات الدرس وبخاصة فى مجالات العلاقات العاطفية، ولتقييم التجارب، تجربة الإقامة فى الخارج بعيدا عن الأهل، وتجربة الدراسة الجامعية فى مجتمع آخر، والأهم تجربة هذه العلاقة الفريدة بين فتاتين التصقتا الواحدة بالأخرى لأكثر من عشر سنوات متصلة بما فيها الفترة التى قضياها معى.
•••
بعد العشاء انتقلنا إلى غرفة مريحة. اخترت للجلوس الأرائك المتواجهة. ابتسمت الفتاة الأكبر وهى بالمناسبة ليست أكبر وإنما أوحت دائما بهذا الاحتمال. وقالت هذا بالضبط ما كنت تفعله معنا للحصول على اعترافاتنا، هناك اختلاف بالتأكيد. فهمت أننا هنا لندلى بشهادات وليس باعترافات. وعلى كل حال كلانا هنا لم يتعود أن يخفى عنك سرا. حاولنا بلا شك نحن ومعظم الزميلات العاملات كما الزائرات ولكن كنت دائما أسبق إلى معرفة ما فى صدورنا. أذكر أننا التقينا ذات صباح عند مدخل عمارة المكتب، سألتنى كعادتك عن أحوالى ومزاجى وهنأتنى بمناسبة عيد ميلاد أمى. شكرتك وأنا متلهفة على الوصول إلى الغرفة التى أعمل منها لأتصل بأمى مهنئة بعيدها. على فكرة، انكشافنا عليك بهذا الشكل جعلك فردا من العائلة، عائلتى وعائلات كل الزميلات والزملاء. جعلك أيضا صديقا شخصيا، صداقة لم تطلبها ولم نحلم بها ولم نتحدث عنها أو نناقشها فى أى يوم من أيام علاقاتنا المديدة. كانت، وأظن أنها ما تزال، كالصمغ السائل تلتصق بفضله الأشياء وتبقى حرة لا تفقد الكثير من خصالها ومعالمها.
•••
تخلصا من حرج المجاملة حتى وقد صدرت إلى هذا الحد ناعمة وتلقائية توجهت بالنظر والحديث إلى زميلتها الصغيرة، وهى ليست أصغر وإن قادتنا تصرفاتها إلى اعتناق هذه الصفة عنها. هى أطول قامة من زميلتها واشتهرت بين الأقران والقرينات بشعرها الأسود اللامع والمنسدل دائما فى نعومة وبراءة حتى كتفيها. كان على هذا الوضع قبل عشر سنوات وعادت من الخارج وما يزال عند مكانه. لم أبخل بملاحظاتى فسألت مادحا كيف أنها حافظت على هذا الشعر وعلى عينين بسواد محبب، لم يقترب منهما كحل أو غيره من الملونات. أجابت كعادتها بكلمات قليلة ولكن شافية وصادقة، قالت «تعرفنى، تعرف عنى أننى لا أضع الألوان والمساحيق. أتعامل مع الطبيعة باحترام، أحترمها فتحترمنى. أعرف تماما أن يوما سيأتى يتجاوز أحدنا حدوده فيرد الآخر وقد نفد صبره».
أخذت رشفة من مشروبى وانتظرت حتى فعلتا بالمثل مع المشروب الذى قامت كل منهما بإعداده لنفسها. استأنفنا الحديث. فتحت موضوع العلاقة مع الجنس الآخر خلال سنوات الإقامة فى الخارج. سألت عن الزواج وقد نما إلى علمى أنهما تزوجتا من أجانب. تطوعت للحديث الزميلة التى راح الظن يصورها لى على أنها الأكبر وهى ليست الأكبر، هى الأقصر طولا والأقوى صوتا. نظرت إلى صديقتها نظرة فيها عتاب المحب وقالت هى تزوجت. لم تأخذ بنصيحتى فتزوجت من رجل لم تختبر عواطفه وعواطفها بعناية وصبر. قاطعتها زميلتها الأصغر وهى ليست أصغر ووجهت حديثها ناحيتى. قالت «هو أكبر منى بما يزيد على عشرين عاما. درسنى القانون الدولى. أظهر لى منذ اليوم الأول إعجابه بقراءاتى المكثفة فى الموضوع الذى تخصص فيه وطلب مساعدتى كباحث مساعد فى دراسة كبيرة يقوم بها تؤهله مرشحا لجائزة نوبل. انبهرت وشعرت بالفخر الكبير. كنا فى مرحلة من مراحل العمل معه نقضى الأيام بلياليها فى القراءة المشتركة والنقاش، نكاد لا نفترق. عاملنى بكل احترام. كان يقول مزهوا بنفسه أنه سيحصل إن آجلا أو عاجلا على جائزة نوبل ولكن يتمنى لو عاش ليرانى وقد ارتديت أنا نفسى روب الترشيح «لأنك أكفأ وأحسن من درست بل أوفر قدرة وذكاء أكاديميا وفكريا من أى زميل دارس لهذا الفرع من القانون الدولى فى كل الجامعات التى اختلط بأساتذتها». توقفت لتلتقط أنفاسها فتدخلت صديقتها لتكمل الرواية بنفسها.
•••
قالت «هكذا بدأت سيطرته عليها. مشكلتى أنا مع هذا الرجل وعلاقته بصديقتى أننى أنا نفسى كنت واثقة أنه صادق فى كل ما فعله من أجلها. كنت حريصة طول الوقت على ضرورة التأكد من أن العلاقة بينهما ما تزال تدور فى فلك العلم والقانون الدولى ولم تنتقل إلى عوالم العاطفة المتبادلة أو من طرف واحد حتى جاء اليوم الموعود. عادت من صومعته فى منتصف الليل زائغة العينين وعلى غير عادتها دخلت غرفتها متعللة بصداع خفيف ورغبة فى النوم. أعرفها وأحيانا أكثر مما أعرف نفسى، ولا أخفى عنك ما لم أعترف به أمام إنسان آخر، أحبها أكثر من حبى لأى شخص آخر، بل أحبها أكثر من حبى لنفسى، وهى تعرف ذلك. بعد مرور ما يزيد على ساعة لم أقدر خلالها على النوم وبالى مشغول بصديقتى. نهضت من فراشى وذهبت إلى غرفتها. فتحت الباب فى هدوء فوجدتها متيقظة ومتوترة. تعللت بأن وجدت الضوء فى غرفتها لم ينطفئ فأحضرت معى قرصين من البنادول ودورق ماء. حدث ما توقعت، رأيتها تلقى بنفسها فى أحضانى وشعرت بدموعها تبلل قميص نومى. نجحت فى تهدئتها، رحت أمسح بيدى على شعرها بينما هى تتمتم بما يشبه الكلمات. فهمت منها أن الأستاذ العظيم قال لها أثناء مناقشة عميقة حول الآثار المترتبة عن انحسار الالتزام بالقانون الدولى فى العلاقات الدولية، قال إنه يحبها ويتمناها زوجة له وهو المنفصل قانونيا عن زوجته السويسرية منذ عامين. استمرت تتمتم. أنها المرة الأولى التى تسمع رجلا كبيرا فى العمر والمكانة ومتزوجا يعلن حبه لها. للوهلة الأولى ظننت أنه ربما صدر عنها بدون وعى منها رد فعل قوى، ولكن غير مناسب، لمدحه المتكرر لعملها وإشادته بتفوقها الأكاديمى والشهرة التى حازتها فى دوائر القانون الدولى والمحاكم الدولية. قدرت أن الأمر اختلط عليها فتداخلت العواطف مع الواجب مع الامتنان فأجابته بأنها سعيدة بعرضه وتوافق على أن يتزوجا كما أراد فى اليوم التالى. كتمت الغصة فى حلقى. حبيبة عمرى وصغيرتى تتزوج وبرجل غير مناسب. هى بالتأكيد لا تبادله الحب، قلت لنفسى وكررتها مرارا. همست فى أذنها بالسؤال، هل تحبيه؟ لم تجب مباشرة. سمعتها تتساءل هامسة وكأنها تنتظر إجابة من داخلها، وكيف يكون الحب؟».
استطردت المتحدثة موجهة الخطاب لى، «تعرف من تجربتك معنا ومن تجاربك الأخرى ومن درايتك العميقة بعواطف المرأة فى جميع مراحلها العمرية أن هذا النوع من الزواج ليس من طبيعته أن يطول. أؤكد لك على كل حال ودرءا للشبهات المحتملة أننى لم أتدخل بأى صورة من الصور لإنهائه. لم أشجعها على الخروج منه ولكنى أيضا وبكل الصراحة الممكنة لم أشجعها على الاستمرار فيه. ها هى أمامك اسألها إن شئت».
استدرت قليلا لأواجه صديقتها وصديقتى، رأيتها والحب لصديقتها طاغ والدموع تملأ مقلتيها. اعتدلت فى جلستها بعد أن مسحت دموعها ولملمت الخصل المتمردة فى شعرها ونظرت لزميلتها ثم نظرت تجاهى، وبصوت ناعم كالكلمات التى ينطق بها قالت «أدركت فى الزواج كم أنا أحترم الرجل الذى صار زوجى، أحترمه وأبجله، ولكنى أدركت أيضا كم أنا أحبها، أحب صديقتى، ولا أستطيع العيش بعيدا عنها».