الصراع على مصر
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 6 أغسطس 2015 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
الأجواء فى الشرق الأوسط ملبدة بضباب كثيف ويكتنفها غموض شديد، والأعصاب، أعصاب رجال الحكم والإعلاميين والعسكريين، مشدودة إلى أقصى مداها، ومراكز التفكير فى الخارج متأهبة كعادتها ومتألقة على غير عادتها، فى انتظار تحولات أكثر إثارة فى شبكة العلاقات الإقليمية.
بالرغم من ذلك أشعر بموجة تفاؤل غريب تعكسها تعليقات بعض أقرب الأصدقاء فى مصر وخارجها. لا يزالون بتفاؤلهم أقلية بسيطة بين صناع الرأى ولكن عددهم مرشح للزيادة ونفوذهم قابل للتوسع. هؤلاء مقتنعون بأنه فى دول بعينها فى المنطقة يزداد يوما بعد يوم تأثير القوى الداعية إلى الفهم والتفاهم. يدرك هذا البعض المتفائل فى الوقت نفسه أن عناصر التطرف ودعاة العدمية يزدادون عددا وعدة ومالا، ولكنه يعود ليؤكد زيادة وعى المسئولين بخطورة ما يمكن أن تؤول إليه الحال فى الشرق الأوسط فى ظل استمرار خطاب التطرف وخطاب المذاهب. إازداد الوعى على مختلف المستويات بالتهديد الذى يمثله استمرار التدخلات الأجنبية فى منطقة مشتعلة، وبفداحة ما ندفعه حاليا وفى المستقبل ثمنا لانسياق بعض حكومات الشرق الأوسط وراء قوى التشدد أو استخدامها لتحقيق انتصارات إعلامية وسياسية قصيرة المدى. من هذه القوى تلك المجموعات التى تضغط فى الداخل على الحاكم وشعبه معا، ومنها القوى المخيفة التى تحتشد فى الخارج استعدادا لتدمير جديد أشد عمقا وأوسع مجالا.
•••
أفهم دواعى التفاؤل المتسلل عبر قنوات هادئة تطلب الاستقرار وتستعد للانطلاق نحو أوضاع أفضل لشعوبها تمنع انفجارها أو تؤجله، ونحو مكانة يحترمها العالم. أفهم هذه الدواعى ولكنى أفهم أيضا حرص المتطرفين هنا وهناك على الاستفادة من كل الفرص الممكنة لتعميق ما يعتقدون أنه بوادر صراع محتمل وطويل الأمد وباهظ التكلفة بين السعودية وإيران. بين هؤلاء المتطرفين داخل الدولتين يوجد بدون شك من يفكر فى ضرورة أن يركز الصراع فى أحد جوانبه على مصر، فتصبح مصر موضوعا أساسيا يتصدر موضوعات الصراع بين الدولتين. أمل هؤلاء، فى الرياض كما فى طهران وربما داخل مصر ذاتها، احباط مساعى تيار الاعتدال والتعقل فى مواقع القرار فى الدولتين، والضغط بكل الوسائل الممكنة على الرأى العام المصرى ليضغط بدوره على صانع السياسة المصرية ليقبل أن تكون مصر موضوع صراع. أمل هؤلاء أن ينتهى الشد والجذب بمصر وقد أصبحت حليفا لقوى متشددة هنا ضد قوى متشددة هناك.
•••
لا يدرك الساعون لتوريط مصر فى صراعات المذهبيين والمتشددين، أو ربما لا يشغلهم، الثمن الذى ستدفعه مصر نتيجة هذا التوريط. لا يدركون، وربما أيضا لا يشغلهم المدى الذى يمكن أن تصل إليه الفوضى الإقليمية لو انضمت مصر عضويا إلى أحد هذه الصراعات. داخليا سوف تشهد مصر حتما انفجار تناقضات جديدة تضاف إلى قائمة التناقضات التى أدت إلى ثورة الربيع ولاتزال بدون حل. من ناحية أخرى، يرجح، بل ربما يتأكد من التجارب السابقة، أن انضمام مصر لصراع من هذا النوع يمكن أن يؤدى إلى توسيع رقعته، إقليميا وعالميا، وهو الأمر الذى لا يتمناه حاكم عاقل ورشيد فى المنطقة، وأعتقد أن القوى الحاكمة فى مصر لا تتمنى لمصر أو المنطقة هذا المصير. رأينا بالفعل كيف أن وضعا خلناه مستقرا فى شبكة العلاقات الخليجية اهتز بمجرد أن بدأت تتبلور بوادر احتدام الصراع عليها بين الطرفين الأكبر فى الإقليم. نعلم الآن أن هذا الصراع إذا احتدم فلن يقتصر على منطقة حدودها عند إيران والسعودية ومصر، بل سيمتد إن آجلا أو عاجلا ليشمل إسرائيل وتركيا والعراق وسوريا ولبنان وبلاد الأكراد.
•••
البديل لخيار أن تكون مصر موضوعا لصراع بين الدولتين الخليجيتين الأكبر، السعودية وإيران، هو أن تكون مصر مقرا ومنشطا ومديرا للحوار بينهما فى حال استقر الأمر والقرار لدعاة الحوار. أقول هذا، والأمل يقوى، فى أن القيادة السياسية المصرية ستكون مرحبة بهذا الخيار. أظن، وظنى فى محله، أن إشارات غير قليلة انطلقت من ناحية القاهرة تدعم أملى وتجدد تفاؤلى. اعرف أيضا أن مصر كانت، ربما عادت، أرضا خصبة لحوارات إقليمية عديدة، التزمت خلالها قيادتها ما أمكنها الحرص على المصالح القومية، ورافضة فى مواقف كثيرة الخلط بين سياسات المغامرة من جهة وسياسات الدفاع عن الأمن القومى من جهة أخرى. فى مرات معدودة وقعت حكومات مصرية فى الخطأ وارتكبت جرم الخلط ودفعت الثمن جروحا غائرة ترفض أن تندمل. أخطأ حكام مصر حين شجعوا على امتداد عقود عديدة فكرة أن تلعب مصر دور «المسهل» لقوى أخرى فى الإقليم ولقوى من خارجه، وهو الدور الذى انتهى بمصر والمصريين نحو كارثة تحققت ولم نتمكن بعد التخلص من آثارها.
•••
الآن أجازف فأتنبأ بأن المملكة السعودية أقرب إلى أن تختار الحوار سياسة مستقرة لها. هناك إشارات لا يراها إلا من اقترب بعض الشىء من تطور الخطاب السياسى والإعلامى السعودى خلال سنوات عديدة، أنقل هنا عن أحد هؤلاء المتخصصين فى الشأن السعودى اقتناعه بوجود رغبة حقيقية فى تفادى الانزلاق على طريق الحرب والصراع والتطرف، وبخاصة بعد أن اتضح أن سلوك هذا الطريق حقق ضررا للمملكة ولمكانتها الدولية ولمجلس التعاون أكثر من أى نفع يحاول المتطرفون إبرازه والترويج له.
على الناحية الأخرى أجازف أيضا. ففى اعتقادى الشخصى أن إيران خرجت من مفاوضاتها الناجحة مع قوى الغرب، وكما توقع بعض الواقعيين من المحللين العرب، أقل استعدادا لممارسة التشدد فى تنفيذ أهدافها وسياساتها الدولية، وكذلك الإقليمية. لن يكون الإعلان عن الرغبة فى اختيار الحوار والمفاوضات الإقليمية مجرد تكتيك سياسى، فالفرصة الراهنة بكل آفاقها اللامحدودة لتحسين مكانة إيران الإقليمية والدولية لن تتكرر. بل لعل إيران الآن وقد صارت أكثر ثقة بالنفس والقدرات من أى وقت مضى، أوفر قدرة على المراهنة على فرص نجاح حوار إقليمى. أجازف مرة أخرى فأعبر عن توقعى أن تكون مصر أحد أهم خيارات إيران كموقع للحوار الإقليمى وسند له.
•••
أعتقد أن مصر الآن ربما تكون مستعدة لأن تدعم خيار الحوار، تدعمه لأسباب قومية ووطنية وواقعية خالصة، وتدعمه أيضا على ضوء مضمون خطاب وزير الخارجية الإيرانية الذى اختيرت «الشروق» المصرية لنشره. لا يمكن إنكار أو تجاهل حقيقة أنه لدى مصر أفكار كثيرة متداولة، أبرزها حسب علمى، الحرص الشديد على توجيه الحوار فى اتجاه التوافق العام على اختيار أنماط جديدة للتحالفات الإقليمية، تحالفات تعتمد على المصالح وعلى التجارة ونقل التكنولوجيا والخبرات العلمية وتطوير مصادر الطاقة، وترفض الاعتماد على أسس مذهبية أو عسكرية أو على أسس الارتباط بتحالفات من خارج الإقليم.
•••
أمامنا فرصة هائلة نثبت من خلالها وربما للمرة الأولى خلال قرن أو أكثر، أننا أمم قادرة على تسوية خلافاتها بالحوار، ورافضة لإقامة تحالفات يديرها دعاة التشدد والتطرف. أمم عاقدة العزم على لم الصفوف ونبذ أسباب الشقاق. الفرصة الراهنة لن تتكرر وأمام القيادة المصرية واجب استثمارها لصالح السلام والأمن فى الإقليم والرفاهة لشعوبه. يبدأ أداء هذا الواجب بخطوة لا عودة عنها، خطوة الإعلان عن رفضها الحاسم لأى دعوة للمشاركة فى لعبة الصراع على مصر.