التعاون النووي.. محددات التقارب الهندي ــ الروسي
العالم يفكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 6 أغسطس 2024 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
مثلت موسكو الوجهة الأولى فى السياسة الخارجية لرئيس الوزراء الهندى فى ولايته الثالثة، وهى الولاية التى لم يمنح فيها ناريندرا مودى الأغلبية المطلقة للمرة الأولى منذ توليه رئاسة وزراء الهند، الأمر الذى يجعل من التحركات التى تأتى لاحقة لهذه الانتخابات التى خالفت نتائجها التوقعات أمرًا يستحق الانتباه للوقوف على أسبابه ودلالاته.
ومن هنا فقد شكلت الرحلة الخارجية الأولى لمودى حدثًا تم التوقف عنده، بالنظر إلى أنها لحظة شديدة الأهمية فى عمر العلاقات الطويلة الأمد بين الهند وروسيا خاصة أنها الزيارة الأولى لرئيس الوزراء الهندى منذ بدء الحرب الروسية ــ الأوكرانية التى اتخذت منها الهند موقفًا لا يوصف بالحيادية بقدر ما يوصف بأنه موقف يراعى مصالح الهند بشكل براجماتى بحت وبالدرجة الأولى. وفضلًا عن ذلك تزامنت القمة بين مودى وبوتين مع انعقاد قمة الناتو فى الولايات المتحدة، الأمر الذى يمكن تحميله بالعديد من الدلالات السياسية التى تتعلق بالأيديولوجية التى يتعامل بها حلف شمال الأطلسى مع قارة آسيا. والتى يعد فيها التقارب بين روسيا والهند إشكالية حقيقية للغرب يصعب فهم أساساتها قبل الخوض فى الأهمية الاستراتيجية لكلا الدولتين على النحو التالى:
أولًاــ الأهمية الاستراتيجية لكل من الهند وروسيا:
تمتلك روسيا عمقًا استراتيجيًا يمكن وصفه بالأكبر فى العالم وذلك بالنظر إلى أن امتدادها الجغرافى الذى يتيح لها أن تضم 11 منطقة زمنية، وبتسليط الضوء على مسألة الامتداد الجغرافى فقد جعلت من روسيا دائمًا عصية على الغزو ومنحتها مناعة ضد الخضوع لاحتلال أجنبى، ويضاف إلى ذلك ما منحه الامتداد الجغرافى لروسيا من غنى فى الموارد الطبيعية وموارد الطاقة؛ مما حولها إلى لاعب اقتصادى مهم، حتى لأوروبا التى مثل الغاز الروسى بالنسبة لها طوق نجاة قبل أن تتحول القارة الأوروبية للبحث عن مصادر بديلة، عقابًا لروسيا على دخولها للأراضى الأوكرانية.
من جهة أخرى لا يمكن تجاهل النفوذ السياسى لروسيا باعتبارها عضوًا دائمًا فى مجلس الأمن الدولى، إلى جانب كونها قوة نووية عظمى تمكنت من فرض وجودها العسكرى فى العديد من المناطق حول العالم وحضور لافت فى إفريقيا على وجه التحديد من خلال قوات فاجنر أو الفيلق الإفريقى.
وبالانتقال إلى الهند فإنها لا تقل من حيث أهميتها الجيوسياسية عن روسيا وإن كانت تمتلك عاملًا يغيب عن طبيعة الوجود الروسى؛ حيث يتجاوز عدد سكانها المليار نسمة؛ الأمر الذى يمنحها ثقلًا نسبيًا لا تنافسها فيه سوى الصين، ويضاف إلى ذلك كون الهند من أسرع الاقتصادات نموًا بالاعتماد على اقتصاد متنوع يشمل بشكل أساسى تكنولوجيا المعلومات، الأمر الذى يجعل منها محطة مركزية فى هذا المجال حول العالم.
وبالبناء على هذه المقدمات فقد مثلت العلاقات بين الهند وروسيا ركيزة تاريخية اعتمدت على التأثير الاستراتيجى لكلا البلدين، وهو المحور الذى تم تدعيمه بالتعاون فى قطاعات الدفاع والطاقة والتكنولوجيا؛ مما جعل هذه العلاقات تصمد أمام عدد من التحولات الجيوسياسية التى لا يمكن تجاهلها، والتى يعد أبرزها فى السنوات الأخيرة الحرب الروسية ــ الأوكرانية التى قوت العلاقات وزادت التعاون بين البلدين بشكل مغاير لتوقعات المعسكر الغربى.
• • •
ثانيًاــ محددات التقارب الهندى ــ الروسى:
فى هذا السياق، تضافرت مجموعة من المحددات التى جعلت من العلاقات الهندية ــ الروسية علاقات راسخة أمام التغيرات الجيوسياسية العالمية وهى المحددات التى كانت ولا تزال قائمة على تحقيق مصلحة كلا الطرفين فى معادلة تحقق وضع مربح للطرفين وذلك على النحو التالى:
التعاون فى مجال الطاقة النووية: فى البدء ينبغى الإشارة إلى أن تعميق التعاون فى قطاعات الطاقة الرئيسية (الفحم والنفط والغاز والمحطات النووية) جاء على رأس الأجندة فى القمة الهندية ــ الروسية الأخيرة، وكون الهند وروسيا تشكلان قوتين نوويتين من أصل خمس دول نووية حول العالم معترف بها رسميًا، جعل مجال التعاون النووى يشكل إطارًا محوريًا للتعاون بين البلدين، وتحرص الهند على الاستفادة من الخبرة الروسية فى هذا المجال، وقد تم التوقيع على بروتوكول جديد للاتفاقية الحكومية الدولية بشأن بناء محطة «كودانكولام» للطاقة النووية فى زيارة استغرقت يومين وقام بها مدير عام شركة «روساتوم» للمحطة الهندية التى تقع فى ولاية تاميل؛ حيث تعد الطاقة النووية هى رابع أكبر مصدر للكهرباء فى الهند.
طريق الشمال وأمن الطاقة: مثل الاستخدام المحتمل لطريق بحر الشمال لتوصيل الطاقة «النفط والغاز»، أحد الأطر المهمة للمباحثات الثنائية بين رئيس الوزراء الهندى وبوتين، حيث تسعى نيودلهى لنقل شحنات النفط والغاز عبر هذا الطريق الذى أعلنت روسيا أنها تسلمت بنجاح أول شحنة غاز مسال من خلال بحر الشمال خلال العام الماضى.
نظرة الناتو لقارة آسيا: تتوفر قناعة لدى حلف شمال الأطلسى بأن قارة آسيا هى امتداد لمفهوم الأمن لدى دول الحلف، ومن هذا المنطلق فهى ترى أن أى دولة آسيوية تميل إلى التعاون مع روسيا لكونها فى حالة عداء غير مباشر مع دول الحلف وهو ما ينطبق فى هذه الحالة على الهند والصين. وفى هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن الدول الكبرى فى آسيا مثل الهند والصين تنظر بعين الشك فى تدخلات الحلف فى القارة الآسيوية وحسب هذا الاتجاه فإن التدخلات فى مجملها كانت فاشلة بما فى ذلك حربا فيتنام وأفغانستان وكذلك سوريا والعراق وهى دول شهدت تدخلات عسكرية من دول أساسية فى حلف الناتو وهى أمريكا ــ المملكة المتحدة. وهو ما يثبت وجهة نظر الهند التى ترى أن حلف الناتو يجب أن يطور مقاربة للتعامل مع آسيا مبنية على منظور منطقة المحيطين الهندى والهادئ وليس من منظور قاصر على حلف شمال الأطلنطى، بما يحقق مصالح الدول فى هذه المنطقة.
التعاون الدفاعى بين البلدين: فى البداية من المهم الإشارة إلى أن الهند حصلت على 34% من صادرات الأسلحة الروسية خلال السنوات الخمس الأخيرة، وذلك وسط تراجع لصادرات السلاح الروسية عالميًا، وبطبيعة الحال فإن هذا يعنى أن العلاقات بين البلدين استراتيجية ومن الصعب حسب طموحات الولايات المتحدة أن يتم تقليصها، لأن تقليل الاعتماد الهندى على التسليح الروسى سوف يتطلب عقودًا حتى يتم تحديث هذه الترسانة وبالتالى فإن استراتيجية هذه العلاقات ستبقى على حالها.
الوجود الهندى فى القارة الإفريقية: تمثل إفريقيا ساحة للتنافس الدولى بالنظر إلى حجم الثروات الموجود فيها والثروات التى لم يتم اكتشافها بعد، إضافة لكونها سوقًا واعدة، وتتصارع القوى الكبرى على فرض النفوذ فيها، ومن أبرز هذه القوى روسيا والصين وسط تراجع للنفوذ الغربى داخل القارة وتحديدًا النفوذ الفرنسى الذى تم استبداله بالنفوذ الروسى.
وعليه رأت الهند كونها من القوى الصاعدة أنه من الأهمية أن يكون لها نفوذ فى القارة الإفريقية واتخذت بالفعل خطوات فى هذا الإطار لموازنة النفوذ الصين عن طريق تعزيز النفوذ العسكرى. ويضاف إلى ذلك أن الهند تنشر بالفعل قوات سلام فى عدد من الدول الإفريقية ضمن مهام الأمم المتحدة حتى إن 80% من قوات حفظ السلام الهندية موجودة فى القارة الإفريقية.
• • •
أما القضية الأخرى فهى تتعلق بمفهوم براجماتى أكثر، قائما على المصالح المشتركة والممتدة بين البلدين، وخاصة ما يتعلق بأمن الطاقة وكذلك الشئون العسكرية والدفاعية «الأسلحة التى تزود روسيا بها الهند»، والأخيرة هى أن الهند ورغم انفتاحها على التحالفات الأمنية مع الغرب وأبرزها تحالف «كواد» فإنها لا تغفل أبدًا التحدى الصينى الذى طالما كان أحد أكبر هواجس نيودلهى خاصة بوجود حدود مشتركة تجعل أمر التوترات واردًا والتى كان آخرها بالفعل خلال عام 2020، ولذلك فهى تنظر إلى علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا بمفهوم موازنة النفوذ فى القارة الآسيوية عن طريق التحالف مع قوى عظمى مثل روسيا، وذلك بالبناء على أن الأمن الإقليمى فى المحيط الأوروآسيوى قائم بشكل كبير على التفاعل بين الهند وروسيا والصين فى إطار عام لكبح النفوذ الغربى.
نيرمين سعيد
المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية
النص الأصلي
https://rb.gy/5ax0yq