شهر مضى والوجع نفسه

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 6 سبتمبر 2020 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

فى نفس تلك اللحظة أطلقت الكنائس أجراسها ورفعت المساجد الصلوات.. وقفت بيروت دقيقة صمت إلا من الصلوات والأدعية على خلفية نحيب أسر الضحايا.. شهر قد مضى وهى تضمد جراحها.. هى عاصمة الفرح تبحث عن ضوء فى عتمة اللحظة.
***
شهر مضى؟ والمدينة تبحث بين الحطام عن من تبقى، عندما سمعت أنفاسا تحت ركام أحد مبانى مار مخايل، جرى كل أولئك الذين لم يتوقفوا عن توزيع المحبة بالتساوى وربما الأمل.
***
ليلة الرابع من أغسطس لم تنم بيروت ولا لبنان ولا العالم.. حبس الكثيرون أنفاسهم.. كل يبحث عن خبر عن أخ، ابن، زوج، أم، أب، زوجة، حبيب، صديق.. كثيرون كانوا عند تلك اللحظة وما بعدها. الدموع محبوسة فى الأعين فلا وقت للبكاء، هذا وقت مسح الجراح وتضميدها. إيقاف شلالات الدم التى سقت طرقات المدينة، جدرانها، عمدت حبهم لها. حبهم كلهم لها.
***
تواصل الليل بالنهار، خرجت الشمس حزينة كما رحل القمر من شدة قساوة المشهد. كثير من الجرحى لم يجد شبرا فى غرفة الطوارئ بمستشفيات بيروت فرحلوا بحثا عن من يضمد جراحهم، يمسح عرقهم ودمعهم ودمهم. بعضهم وصل حتى صيدا جنوبا وطرابلس شمالا وآخرون إلى المتن كان مشوار ليلة الموت المجاني!!!
***
كثيرون «زمطو» ــ كما قال ذاك الطبيب، ــ ربما من الموت أو الجراح ولكن لم يتركهم الانفجار بل طاردهم فى تفاصيل بيوتهم وحيواتهم وأحلامهم وذكرياتهم.. هو أخذ كل شيء.. كل شيء حتى تلك المساحة الضيقة من الخصوصية.. انفجار البور دخل كل بيت فى لبنان ليست هى الأحياء القريبة فقط بل الأبعد وكثير من العاملين القادمين من مختلف مناطق لبنان ومن خارجه.. تزاوجت الدماء والتصق الجرح بالجرح واختلطت الدماء.
***
فى صباح الخامس من أغسطس زحف اللبنانيون واللبنانيات وغيرهم.. كل محبى المدينة وناسها، كل يريد أن يقول «لستم وحدكم». كثيرون يرفعون الأنقاض وآخرون يكنسون الطرقات ويوزعون الطعام. بعضهم بدأ الصباح، ولم يتوقف حتى الآن ينثر الزعتر على رغيف الصاج. ويوزع «المنقوشة» الساخنة زعتر ولبنة وجبنة. وماء للمارة وللعاملين والأهم للسكان الذين ما إن بدأت أشعة الشمس تعيد الحياة لليلتهم الظلماء، حتى اكتشفوا بعض الجراح ولا سكن.. فقد الكثيرون منازلهم.. تقول تلك السيدة الستينية «هذا بيتى ما عندى غيرو واين بدى اروح واين؟». أسئلتها بقيت تتردد فى فضاء المكان فهى ليست الوحيدة، كثيرون مثلها وبعضهم رفض اللجوء لمنزل الأقارب وجلس «بكرامة». على كرسى أمام ركام مسكنه، بيته، شقى عمره ومخزن ذكرياته.
***
لم يتوقف شلال المتطوعين بل عشاق المدينة. وناسها.. رفعت بيروت رأسها بهم نظرت حولها بعين، فكثيرون فقدوا أعينهم، راحت تتحسس رجلها، يدها ورأسها.. تشابهت الإصابات رغم اختلافها ووحد الوجع الجميع لبنانيون وغيرهم. ما زال الألم الممزوج أحيانا بالغضب مستمرا.
***
أصبحت عيادات الأطباء والمستشفيات مكانا لعلاج جماعى، كل يتفحص إصابات الآخر. وتلتقى الأسئلة «ألف سلامة... من الانفجار؟؟» يسرد كلهم مكان إصاباته وأين كان وماذا كان يفعل.. إلخ. تحسسست بيروت جراحها من الجميزا إلى مار مخايل والكرنتينا والأشرفية.. بل بعضهم أحس بالانفجار فى مناطق أبعد وأبعد وتساقطت النوافذ.. زجاج وحطام.
***
تحت غيمة الحزن التى خيمت على المكان وتوسعت، راح المتطوعون يغرسون بذور محبة وكثير من التلاحم.. رص اللبنانيون قلوبهم، قلب عند قلب حتى لا تكون الأرواح الطاهرة التى رحلت والجروح التى لا تزال بحاجة لمداواة، حتى لا تبدو وكأنها حكاية النهاية لمدينة عرفت كيف ترقص فوق جراحها مرات ونهضت من تحت أنقاض الاقتتال والحروب مرات ومرات.
***
لا تزال بيروت وكل اللبنانيين يعضون على أوجاعهم.. يلملمون جراحهم، يرسمون البسمة على وجوه ترك الزجاج المتطاير بصماته عليها.. تلك الفتاة التى قالت «ستبقى ابتسامتى» والجروح غائرة فى الوجه البرىء، وتلك التى شاركت قصتها لنعرف جميعا حجم ما حدث. فقد كانت وخطيبها فى طريقهم لشراء فستان والذهاب للعشاء فى ذاك المطعم الهادئ براس بيروت.. صورتهما ما قبل الانفجار كانت يدين تحضنان بعضهما، وبعدها جسدين مغطيين بالدم عند حافة الرصيف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved