طالبان و«داعش» خراسان
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 6 سبتمبر 2021 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
يبدو أن تفاقم الأعباء على كاهل حركة طالبان، التى لا تزال مدرجة على لوائح التنظيمات الإرهابية بدول شتى، سينال من قدرتها على الوفاء بتعهدها عدم السماح للجماعات الجهادية التكفيرية باتخاذ أراضى أفغانستان منصة لتهديد أية دولة. فعلاوة على الغموض المريب، الذى يكتنف علاقتها الشائكة بتنظيم القاعدة، ينذر انبعاث «داعش خراسان»، كأحد أخطر تشكيلات الإرهاب العالمى، وأبرز مصادر التهديد الوجودى للحركة، منذ ظهوره بمديريات الشرق الأفغانى أواخرعام 2014، شاخصا بأبصاره تلقاء آسيا الوسطى، ثم انخراطه فى قتال القوات الأمريكية والأفغانية والطالبانية، حتى بسط سيطرته على مديرية خوكى بمحافظة كونارالحدودية مع باكستان، بتحول أفغانستان إلى ميدان لمواجهات شرسة بين الحركة المرتبكة والتنظيم المتطرف، مع مشاركة محتملة للتحالف الكونى لهزيمة الامتدادات العالمية للخطر الداعشى.
إلى جانب التباينات الفقهية والتناقضات الأيديولوجية بينهما، تعكف حركة طالبان على التصدى لمخططات «داعش» خراسان الرامية إلى السيطرة على مناطق حدودية مع باكستان، وإجهاض مشاريعه التوسعية للتموضع فى ربوع أفغانستان، بينما لم يتورع عن اتهامها بالبراجماتية المفرطة، وإعلاء الاعتبارات القومية فوق الانتماء الدينى، واصفا قياداتها التى تتفاوض مع الأمريكيين ومناهضى المشروع الجهادى بـ«الكفار» و«المرتدين». وما بين عامى 2017 و2020، شنت كتيبة «بدرى 313»،التى تضم خيرة مقاتلى طالبان، تدريبا وتسليحا، حملة ضارية لدحر«داعش» بولاية ننجرهار. وفى فبراير2020، انتقد التنظيم اتفاق الدوحة، الذى أبرمته الحركة مع واشنطن، منددا بتفريطها فى ثوابتها. وخلافا لطائفة من الجماعات والتنظيمات المتأسلمة، التى تتخذ من أفغانستان ملاذا آمنا، أعرض «داعش خراسان» عن مباركة استيلاء طالبان على العاصمة كابول منتصف الشهرالمنقضى.
لئن كان، توماس بارفيلد، عالم الأنثروبولوجيا الأمريكى الشهير، يرى أن «الانهيار السريع للجيوش ونظم الحكم، يعد سمتا أصيلا للتجربة الأفغانية»، تمثل عودة تنظيم «داعش» خراسان، تقويضا لثقة الشعب الأفغانى فى قدرة طالبان، كسلطة حاكمة، على الاضطلاع بوظيفتها الأمنية. فلقد غذت التفجيرات الانتحارية بمحيط مطار كابول، التى أودت بحياة 13 جنديا أمريكيا وقرابة مائتين من الأفغان، وما تلاها من هجمات صاروخية، تبناها التنظيم، شكوك غالبية الشعب الأفغانى فى جهوزية الحركة لتأمين البلاد،لا سيما بؤرها الحضرية المكتظة بالسكان، مثل العاصمة كابول. فرغم انتزاعها السيطرة عليها فى غضون أسابيع قلائل، بغير مواجهات مسلحة، وتفاخرها بما غنمته من أسلحة أمريكية تقدر بمليارات الدولارات، يستعصى على طالبان ملء الفراغ الأمنى والعسكرى الناجم عن الانسحاب الفوضوى للقوات الأمريكية والأطلسية، ما خول «داعش خراسان»، اقتناص موطئ قدم هناك، يتخذ منه قاعدة لمباشرة أنشطته الإرهابية بالداخل الأفغانى ومحيطيه الإقليمى والدولى، مستغلا تجدد الاضطرابات الداخلية، جراء إخفاق طالبان فى إحكام قبضتها على مقاليد الأمور، وعجزها عن فرض سلطتها بأصقاع البلاد كافة.
يمثل التعاطى مع ترسانة الأسلحة الأمريكية، التى تحصلت عليها من قوات الدفاع والأمن الوطنى الأفغانية، إضافة إلى القواعد الأمريكية، تحديا جسيما للحركة. فرغم ما بحوزتها من فنيين، تحتاج الأسلحة المتطورة التى غنمتها إلى خبراء محترفين، كما لبرامج منتظمة للصيانة والتدريب والاستبدال. وبغض النظر عن العربات المدرعة وناقلات الجند وبنادق M4و M16، التى قد لا يتعذر على مقاتلى طالبان استيعابها واستخدامها، لن يتسنى لهم تشغيل قرابة 40 مروحية «بلاك هوك»، أوعشرات الطائرات الهجومية من طراز «Aــ29 سوبر توكانو»، أو «إم دى 530 »، و«سيسنا 208»، أو طائرات النقل من طراز «سى ــ 130»، دون تأهيل أو تدريب لطواقم الطيارين والفنيين. فبينما تدعى القوات الأمريكية والبريطانية نقل جل المعدات والتجهيزات العسكرية النوعية والثقيلة خارج أفغانستان، وتدمير المنظومات التسليحية الحديثة، حتى لا تطالها أيادى الحركة، لا تمتلك الأخيرة طيارين قادرين على التحليق بأمان، أواستخدام أجهزة الاستشعار، وتحميل المدافع واستخدامها، فى ظل ارتفاع كلفة الخدمات اللوجيستية المرتبطة بتشغيل وصيانة الطائرات الحربية، قبل وبعد المهمات. ولعل هذا ما أجج مخاوف مكتب «مساءلة الحكومة الأمريكية» من شروع طالبان فى بيع غنائمها من الأسلحة الأمريكية فى السوق السوداء العالمية.
على غرار تجربتها الأولى فى الحكم خلال الفترة من عام 1996حتى 2001، تواجه الحركة اليوم، فضلا عن شبح الانهيار الاقتصادى، وتعقيدات التنوع الإثنى والمذهبى، ومأساة هروب الأدمغة والكفاءات الوطنية، وإشكالية الانتقال من عقلية التنظيم الحركى إلى نهج السلطة الحاكمة، معضلات أمنية عُضال لسلطتها وقدرتها على استرضاء أربعين مليون أفغانى يعيشون فى 34 ولاية. فإضافة إلى أولوية احتواء تهديدات المقاومة المسلحة العنيدة فى بنجشير، والتصدى لأمراء الحرب وشبكة حقانى، يتعين على طالبان اليوم مجابهة مخاطر جماعات متطرفة على شاكلة القاعدة، وداعش خراسان، وطالبان باكستان، فى الوقت الذى يبدو مقاتلو الحركة منهكين بعد سنوات من المعارك الضارية ضد القوات الحكومية والأطلسية. وبعدما أضحت العاصمة كابول مركزا حضاريا مزدهرا، جراء استئثارها بنصيب الأسد من المساعدات وبرامج التنمية الأمريكية والغربية خلال العقدين الماضيين، اضطرت الحركة لتوجيه أفضل مقاتليها لتأمينها، تاركة مدنًا أخرى عديدة مثل جلال أباد، التى تعد موطنا لأنشطة «داعش»، أكثر انكشافا وعرضة للتهديدات والأخطار. يأتى هذا بينما تتربص الانقسامات بالحركة، حيث يتنازعها تياران متنافسان حول نهج إدارة البلاد. إذ تميل القيادات العليا إلى إظهار وجه أكثر اعتدالا للحركة توسلا لنيل الاعتراف والدعم الدوليين، فيما تأبى المستويات الوسيطة والدنيا إلا التمسك بالأفكار والسياسات المتشددة.
فى حين ترجع طالبان تفشى الإرهاب الداعشى إلى إخفاق الحكومات السابقة، وسوء التقدير الاستراتيجى الأمريكى، استبعدت إدارة بايدن أى تواطؤ لـلحركة مع «داعش» فى عمليات كابول الإرهابية. غير أن علامات استفهام عديدة تحاصر طالبان بجريرة تحريرها سجناء كثر أثناء سيطرتها الدرامية على العاصمة. فبينما أبدى المتحدث باسم الحركة قلقه من هروب سجناء دواعش، أدانت وزارة الدفاع الأمريكية إطلاق طالبان للآلاف من سجن باغرام قبيل تفجيرات المطار. وبموازاة اليقين الأمريكى بتعاظم قدرة «داعش» عقب إطلاق سراح مقاتليه الموقوفين، تحذر الأمم المتحدة من التعاون القاعدى الطالبانى، إلى حد إجراء تدريبات وتنفيذ عمليات مشتركة.
من زاوية أخرى، لا يستنكف اختصاصيون أن يلقوا باللائمة على واشنطن فى تغول «داعش خراسان»، ليغدو واحدا من أخطر التنظيمات الإرهابية على مستوى العالم، حسب مؤشر الإرهاب العالمى التابع لمعهد الاقتصاد والسلام، معتبرين أن حروب أمريكا وحلفائها ضد الإرهاب طيلة عشرين عاما، لم تؤت أكلها. فبدلا من استئصال شأفته، توحش التهديد الجهادى وتشعب وتتطور. ففى عام 2018، رصد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، ارتفاع عدد التنظيمات الإرهابية النشطة إلى 67، مسجلا أعلى حصيلة منذ العام1980، وتنامى أعداد مقاتليها إلى ما بين 100و230 ألفا؛ بنسبة زيادة قدرها 270 %،مقارنة بتقديرات عام 2001.بدوره اتسع المدى الجغرافى للخطر الإرهابى،ليشمل الشرق الأوسط وغرب أفريقيا، فضلا عن معظم بقاع العالم العربى، وجنوب وجنوب شرقى آسيا.
ولقد استخدم الأمريكيون قنبلة «جى.بى.يوــ43»،المسماة «أم القنابل»، كونها أضخم قنبلة غير نووية، لتدمير أنفاق ومخابئ تابعة لـ«داعش» خراسان بمقاطعة آشين فى إقليم نانجارهارعام 2017، فيما هرع الجيش الأفغانى، بعد عمليات مشتركة نفذها مع القوات الأمريكية، إلى إعلان هزيمة التنظيم، إلا أن الأخير سرعان ما فاجأ العالمين بمعاودة النهوض، مستعرضا قدراته الإرهابية الفتاكة فى عمليات موجعة ومدوية زلزلت مطار كابول. ما أجبر القوات الأمريكية على توسل رد سريع عبرغارتين بمُسيرتين لتدمير آليات تستقلها قيادات داعشية، استنقاذا لما تبقى من صدقيتها وهيبتها، وتأكيدا لاستمرارية الحرب ضد الإرهاب.
برغم إخفاق العمليات التى نفذتها، بالتعاون مع حكومة أشرف غنى، فى قطع دابر التنظيم المتطرف، لم ترعوِ واشنطن عن تسليم أفغانستان لطالبان،غير المؤهلة لكبح جماح التنظيمات الإرهابية. الأمر الذى شجع «داعش» على تنفيذ 216 هجوما بين مطلع يناير، و11 أغسطس 2021، مقارنة بـ34 هجوما خلال الفترة نفسها من العام الماضى. واليوم، لا يتورع خبراء عن التشكيك فى فعالية استراتيجية واشنطن الجديدة لمحاربة الإرهاب عن بُعد، والتى يؤكد المسئولون العسكريون الأمريكيون بموجبها قدرة بلادهم على هزيمة الإرهاب فى أفغانستان، من الجو، دونما ضرورة لتموضع عسكرى ممتد، خصوصا بعدما فوض الرئيس بايدن البنتاجون باستخدام المسيرات لضرب الأهداف التابعة للتنظيمات الإرهابية هناك فى قابل الأيام.
ومثلما لم يحل تجديد الخارجية الأمريكية رفضها تخفيف العقوبات المفروضة على حركة طالبان، دون مواصلة تقديم المساعدات الإنسانية لشعب أفغانستان، والسماح باستئناف التحويلات المالية الشخصية الخارجية، التى تقدر بـ790 مليون دولار، وتمثل 4% من الناتج المحلى الإجمالى الأفغانى سنويا، لم يمنع إعلان الرئيس بايدن، فى أحدث خطبه، أفول حقبة التدخل العسكرى الأمريكى الخارجى بذريعة بناء الدول وتأهيل الجيوش، الجنرال مارك ميلى، رئيس هيئة الأركان المشتركة، من تأكيد جهوزية بلاده للتنسيق مع طالبان، بغية تقويض التهديد الداعشى المتعاظم،وحرمان الإرهابيين من اتخاذ أفغانستان قاعدة لمعاودة تهديد المصالح الأمريكية.