كرامة النبات

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأحد 6 نوفمبر 2022 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة وفاء البوعيسى، تقول فيه إن صمت النباتات شجع الإنسان على انتهاك حقها فى الحياة حتى ظهرت الأزمة البيئية ومشكلة الاحتباس الحرارى. كما تناولت التشريعات السويسرية وكيف فرضت حقوقا قانونية للنباتات، كمنع التدخل فى جيناتها أو جعلها موضوعا لبراءات الاختراع.. نعرض من المقال ما يلى.
تعدّ النباتات أكثر الكائنات الحيّة وجودا فى الطبيعة، كونها قادرة على العيش فى أيّ مكان أو وسط أيّ مناخ؛ فهى، مثلا، تحيا فى السهول والجبال، كما فى أشدّ الأماكن الطاردة للحياة، كالصحارى القائظة فوق العادة، وفى القطبَيْن الشماليّ والجنوبيّ، اللّذَيْن يغطّيهما الجليد السميك على مدياتٍ تكاد لا تُحدّ. ومن هنا جاءت وفرتها وتنوّعها وانتشارها الهائل، ما جَعَلَها الغذاءَ الرئيس لمُختلف الكائنات الحيّة: من بَشَرٍ وحيوانٍ وزواحفَ وطيورٍ وأسماكٍ وفطريّات، وحتّى تلك الكائنات التى لا تُرى إلّا بالمجهر كالجراثيم أو البكتيريّات والفيروسات؛ فى الوقت الذى تكتفى هى فيه بالتُّربة، تمتصّ منها الماء والعناصر الغذائيّة والمعادن.
لكنّ نقص معرفة الإنسان بآليّة عمل النباتات فى الطبيعة، وقلّة حركتها وصمتها والتشابه العامّ فى سطحها وقوامها، وكونها غير مفترسة (إلّا فى ما ندر) ومستقلّة بنفسها، هو ما خَلَقَ ظاهرة عمى النبات بين البشر.
إنّ تهميش النبات وإخراجه من دائرة التفضيل التى اعترف بها البشر للحيوانات، واستتباعاتها القانونيّة باحترام حقّها فى الحياة والتطوّر وحمايتها من الانقراض والرفق بها، إنّما تنبع من فكرة مركزيّة الإنسان وعلوّه على الطبيعة، حتّى ظهرت فى كلّ مكان أزمةٌ بيئيّة بشريّة المنشأ، تمثّلت فى تدمير النُّظم البيئيّة فجلَبت التلوّث للتربة والماء والهواء، والاحتباس الحرارى وانقراض فصائل من الحيوانات والنباتات وتراجُع الغابات.

ذكيّة وعصيّة على الإحاطة
أُسيء فهْمُ صمتِ النباتات لقرونٍ طويلة، حتّى ساد اعتقادٌ بأنّها مجرّد «أشياء» عاطلة، سلبيّة وخاضعة لإكراهات بيئتها، لكنّ الحقيقة أنّها كائناتٌ صاخبة، شرهة للحياة وعنيدة، فقد عرفت التطوّر على مدى ثلاثة مليارات سنة، كافحت خلالها من أجل البقاء والتواصل حتّى صمدت إلى اليوم.
وعلماء النبات اليوم يعتبرون النبات كائنا حيّا للغاية وذكيّا للغاية، وذلك لقدرته الملحوظة على مُواجَهة ظروفٍ شديدة التنافُس أو تهديدا قاتلا فيُضْطرّ للتعديل من سلوكه لتحسين فرصة بقائه على قَيد الحياة.
أمّا متطلّبات الظروف التى تُعبِّر عن ذكاء النباتات، فيتحقّق فى بيئتها الطبيعيّة لا بالمُختبرات. فالأولى توفِّر فرصةَ تفاعُلِ العديد من العوامل التى يتمّ اختبارها معا وتؤدّى إلى تطوّر النبتة، ومنها الماء والضوء والرياح وتعقيدات المحيط ومعظمها ليست ثابتة، على عكس بيئة المُختبر التى تخضع لظروفٍ ثابتة فى الحرارة والضوء والأصوات والتغذية.
وفى البيئة الطبيعيّة يُمكن للمُنافَسة الشرسة على الموارد والضوء أن تُهدّد بقاء النبات ما يتطلّب تقييما داخليّا للموقف باستمرار، وهنا بالذات تُدرِك النبتةُ الهويّةَ المُحتمَلة للجيران المُنافسين، وبالتالى اختيار الاستجابة الأكثر ملاءمةً فى كلّ مرّة بالاعتماد على عوامل: الحدّة المتغيّرة للضوء، واتّجاهه، وتركيز الموادّ الكيميائيّة التى تُفرزها الجذور فى التربة، والمعلومات التى تأتى من شبكة الفطريّات المُحيطة، أمّا الاستجابة فتتراوح بين المُواجَهة والتسامُح.
ولأنّ النباتات لا تملك امتياز الفرار لدى تعرّضها للخطر، فهى تعرف جيّدا كيف تضع بعض الاستراتيجيّات فى تعاملها مع آخرين تحت الأرض وفوقها، كنباتاتٍ أخرى صديقة أو عدوّة، وبكتيريا أو حيوانات، وذلك عبر نَسْجِ شبكةٍ ديناميكيّة من التفاعُلات بحركاتٍ محسوبة ذهابا وإيّابا بين الانفتاح على البيئة أو الانسحاب مرّة أخرى إلى نفسها، كما أنّها قد تلجأ لخيارِ تجنُّب المُواجَهة.
وفقا لهذه النتائج التى كَشَفَ عنها عِلم بيولوجيا النبات، فقد بات واضحا أنّ النباتات تتفاعل مع ظروف بيئتها على نحوٍ مناسبٍ للغاية، وهى قادرةٌ على الاختيار بين احتمالاتٍ عدّة، وهى تختار ما فى مصلحتها دائما، ما يدفع إلى السؤال الذى بات ضروريّا اليوم وهو: ألَم يَئن الأوان بعد للاعتراف بحقوق النبات وقيمته بمنأى عن المصالح البشريّة المتعلّقة به، وأنّ هذه القيمة تفرض احترامه لمصلحته هو، لا لكونه مفيدا للإنسان كطعامٍ أو متعة بصريّة؟
• • •
صار للنبات صوتٌ مسموع فى سويسرا، إذ فَرَضَ له الدستور حقوقا قانونيّة على العلماء والشركات والمُزارِعين، تمنع التدخُّل فى جيناته وتُحرِّم اعتباره موضوعا لبراءات الاختراع، فالنبات ليس اختراعا طارئا من قِبَلِ إنسان، بل هو مكوّنٌ قديم من مكوّنات الطبيعة الحيّة. لكنّ هذا الموقف التقدّمى لم يمرّ بسهولة، فقد استغرق الأمر دَورةً برلمانيةً كاملة، عَرفت الكثير من الاستهجان والسخرية والانقسام بين الكتل المحافظة من اللّاهوتيّين والنيوليبراليّين، فى مُقابل اللّيبراليّين والمُدافعين عن البيئة حتّى جرى أخيرا إقراره ضمن المادّة 120 فى الدستور الصادر سنة 1992.
لا يَعرف كثيرون أنّ إقرارَ المادّة المذكورة، سببها أزمة سادت فى عقد الثمانينيّات من القرن الماضى، دارت فيها مناقشات مطوّلة حول مخاطر الهندسة الوراثيّة، مع ذيوع التخصيب فى المُختبرات وظهور تجارب الاستنساخ على حيوانات، فقدّمت مجلّة Consumer Magazine مُقترحا للبرلمان تلتمس فيه وضْعَ قيودٍ صارمة وملموسة للحدّ من استعمال الهندسة الوراثيّة فى عموم الكائنات الحيّة، وقد قُدِّر لهذا المُقترح أن يقود للاعتراف بالكرامة للنبات وعدم التدخّل فى جيناته.
لكن قبل ذلك عندما انعقدت الهيئة التشريعيّة وعَرضت المُقترح على البرلمان متضمّنا عبارة «كرامة الكائنات الحيّة»، مصحوبةً بحُكمٍ يُحدّ من التقنيّات الوراثيّة فى الكائنات الأخرى على أساسٍ موازٍ لكرامة الإنسان، اندلعَ ما يُعدّ أطول وأشرس حوار إشكالى عرفه برلمان أوروبى، وقد شمل الجدل اقتراح الهيئة التشريعيّة ومشروع لجنة الأخلاق الفيدراليّة المكلَّفة بوضْعِ قانونٍ يضمن احترام النبات، وهذا الجدل لا يزال مستمرّا حتّى اليوم، محليّا وعالميّا.
من ناحية اعتُبر القانون غير معقول، ومن الصعوبة الامتثال له فى زمن العلوم والاكتشافات التى تستوجب إجراء التجارب العلميّة بهدف تحسين جودة الحياة، فضلا عن عدم اليقين المحيط بمتطلّباته. كما أنّ مفهوم الكرامة، إنّما يشير إلى الاستقلاليّة الفرديّة للإنسان أكثر من كونه يتعلّق بالمُجتمع والبيئة، وإلصاق لفظ الكرامة بالنبات ما هو إلّا شطحٌ بلاغيٌّ فارغ لإيديولوجيا ليبراليّة ذهبت أبعد من اللّازم فى كراهيّتها للشيوعيّة وكان بالوسع اللّجوء للمؤسّسات المعنيَّة بالنبات لحمايتها من أيّ ضرر.
ومن ناحية أخرى استنكرت المجاميع المُحافِظة من اللّاهوتيّين، وبعض عُلماء النبات، فكرة مساواة النبات مع البشر فى الكرامة، فالكرامة صفة حصريّة بالإنسان والبشر، بزعم أنّهم أقرب إلى الملائكة من الحيوانات، ناهينا بالنبات، ولو كان الأمر عكس ذلك، لكان على النباتات الجيّدة أن تذهب إلى الجنّة. وتمسّكت المجاميع تلك بأنّ النباتات ليست جزءا من المُجتمع الأخلاقى، لأنّها لا تفى بشروط الانتماء إليه، ومنها ضرورة تمتّعها بالوعى والإحساس والجهاز العصبى.
كما اصطدمت المجاميع اللّاهوتيّة بلجنة الأخلاق الفيدراليّة السويسريّة، حين قدّمت الأخيرة رؤيتها العلميّة عن ذكاء النبات وقدرته على التكيُّف والعيش، وأنّه جزءٌ لا يتجزّأ من نظامٍ بيئى حيّ شديد التفاعُل ومُترابِط بعضه ببعض. لكن كان هذا أكثر ممّا يُمكن احتماله من قِبل اللّاهوتيّين، أن يُنحّى الإنسان هكذا أمامهم عن عرشه فى الكون من قِبل داروينيّين ماديّين، بزعم أنّه لا يوجد أيّ تمييز بين الكائنات، لأنّها جميعا تشترك فى عددٍ من الجينات، أو حتّى على المستوى الجزيئى والخلوى، ما يعطيهم الحقّ فى مساواة النباتات بالبشر.
كما سخر من المبدأ مهتمّون بحقوق الإنسان، موجّهين نظر الجميع إلى تلكّؤ المجتمع الدولى فى الاعتراف بالمسئوليّة الجماعيّة عن التقصير فى حماية كرامة الإنسان، ناهينا بمؤسّسات أخرى مثل الأُمم المتّحدة والحكومات المحليّة والأجنبيّة والمجاميع المسلّحة، إذ يعدّونها جميعا المسئول الأكبر عن هَدْرِ كرامة ملايين البشر بالإهانة والأفعال الوحشيّة.
والحقيقة أنّ منشأ الجدل كلّه كان أنّ الهيئة التشريعيّة ولجنة الأخلاق لاحقا لم يقدِّما من منظورٍ أخلاقى تجسيدا واضحا للمصطلح الصادم وغير المسبوق «كرامة الكائنات الحيّة»، فظهرت الأسئلة حول المطلوب فعله بالضبط لتفادى جَرْح كرامة النبات: هل يجب على البشر التوقُّف عن أكْلِ النباتات تحرُّجا من أكلِ كرامتها أيضا؟ هل تَحزن النباتات عند تشذيب أغصانها؟ وهل تشعر الشجرة بالإذلال حين تُجسَّد على شكل إنسان؟
لقد توسّعت الأسئلة الوجوديّة والعلميّة الصعبة فى البرلمان وخارجه، وأغرقت النُكات الشارع السويسرى والعالَم كلّه. لكن كان على الحوار أن يهدأ وأن يُركِّز المتحاورون على مسألتَيْن: كيف نستهلك النباتات مع الوضع الوجودى والمعنوى الجديد لها؟ والأخرى إعادة التفكير فى علاقة إنسان اليوم بالنبات، وهل يجوز أخلاقيًّا أن يُخضعه للاستغلال الكامل بزعم عدم امتلاكه وعيا أو جهازا عصبيّا؟

النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved