يومياتهم دروس لنا
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 7 يناير 2024 - 7:00 م
بتوقيت القاهرة
تسمع الطفل أو الطفلة والألم يعصر قلبيهما على فقدان الأقرب والأعز والأحب ويبقى قلبك يرجف وجعا.. ثم تأتيك امرأة غزاوية لتردد «ما راح نترك أرضنا» وهى التى هجرت مرة ومرتين وثلاثة والقادم لا يوحى بأى عودة لذاك البيت الذى تحول إلى كتلة من ركام.. والأب يقطع بعض شعرات من رأس طفلته الناعمة ويقبلها ثم يلحفها بالكفن الأبيض كما هى بياض فى بياض.
• • •
تأتيك أصوات أطفال يغنون «باقيين هون» أو يرقصون على أنغام الدبكة أو حتى فقط يضحكون وتتساءل «كيف يستطيعون الضحك أمام كل ما يعيشونه؟»
• • •
إنها غزة وهم الفلسطينيون يعلموننا كلنا معنى الحياة كما يجب أن تكون لا كما رسمها أحدهم وكرسها آخرون مثله وسار عليها الرعاع أى نحن، نعم كلنا رعاع أو قطعان تسير فى مواكب مزدحمة حول قطعة هنا أو مكسب هناك أو حتى شنطة يد أو فستان أو أى شكل من اللبس أو الأكل أو الشرب أو العطور أو السيارات والإكسسوارات.. كلنا أصبحنا عبيدا لبعض مظاهر يرسهما صانعو كل هذه السلع، أليست هى فى نهاية الأمر سلعا بل هى سلع للاستهلاك وليس للبقاء على الحياة أو المحافظة عليها؟.. أو ربما هى وسيلة للترقى فى السلم الاجتماعى والاقتصادى والسياسى أيضا.. كلها مترابطة.
• •
كيف أسقط الغزاوى طعم تلك الرائحة أو ذاك المطعم الفخم أو الشنطة التى يعادل سعرها مرتب موظف محترم لأشهر؟.. بل كيف أصبحنا نعشق الخبز الذى يعجن على بقايا حطام بمعنى بعض حجر وأخشاب من ركام ذاك المنزل بل هى أخشاب خزانة شام الصغيرة الجميلة؛ تلك التى لم تتمكن من حمل كل ألعابها وحليها وصورها وكتبها ودفاتر رسمها؟، شام ركضت لتتعلق بالبالطو الزهرى فشام تحب ألوان الورد، وحملت مقلمتها ودفتر ألوانها وبعض دمى أو ربما هى دمية واحدة وتركت كل الذكريات لتتكوم مع كثير من صور وذكريات جيرانها وأهلها وأحبتها.. وبقيت قطع خشب خزانتها الصغيرة التى تحولت إلى فرن لصناعة الخبز الطازج فى صباحات غزة المنكوبة بصواريخهم وقذائفهم وطائرات «الدرون».
• • •
تمسح شام كما غيرها من طفلات غزة دموعهن بأكمام ملابسهن وهن يرجفن من الخوف والجوع ووجع الفراق.. سامية تقول: «استشهدوا كل صاحباتى فى الصف» والمدرسة اتهدمت ولكنها تمسك بكتبها أو ما استطاعت أن تنقذه منهم وبعض أقلام ملونة ومنها لون خديها، رغم خدوش الجراح الناتجة عن القصف الذى أنزل سقف بيتهم فوق كل النائمين فى ليلة اشتد فيها الضجيج حتى تحول إلى مشهد من فيلم رعب لم تعرفه إلا عندما كان والداها يتابعان بعض أفلام هوليوود فى ليلة خريفية ممطرة.
• • •
أسقط أهل غزة معنى الجوع والعطش والاحتياج، كل الاحتياج للطعام أو الشراب أو الملبس أو المسكن أو الحياة الكريمة.. أسقطوه من حساباتهم وخيمهم تغرق فى شبر مطر. حتى عندما سبحت فرشهم الاسفنجية فوق بحيرة المطر ردد ذاك الطفل الغزى الجميل «كنت عطشان فأرسلت السماء ماءها».. خالد وزياد وأحمد ومحمد كلهم يعرفون أن السماء والطبيعة أكثر رحمة من البشر حتى القريبين جدا منهم.
• • •
ببعض قطرات مطر ورغيف فوق قطع خشب وقطرات من زيت الزيتون ورشة زعتر يعيش الغزى لأيام دون أى طعام آخر، والأطفال يحلمون بقطع من الشكولاتة والبسكويت ولكنهم لا يزالون يرقصون فرحا عندما تمنح الحياة فرصة ويبتسمون للمصورين ويتحدثون بكثير من الطلاقة والقناعة التى يندر أن ينطق بها أطفال العرب كلهم ليعلموننا جميعا دروسا فى معنى الحياة الحق، بل فى فن الحياة بكرامة بعيدا عن المكرمات وطوابير المنح وكل التنازلات التى لا تنتهى عند التخلى عن بعض العزة والتحول إلى متسولين بلقب مواطن، أو هو عودة للرعية كما كانوا يكتبون فى بطاقات الهوية القديمة التى أصبحت مواد لمتاحف تكتظ بقصص منها مزور أو ملفق أو ربما فيه بعض الكذب المغلف بالسوليفان.. كم درسا سنتعلم منكم أهلنا فى غزة ولسنا وحدنا من سنتعلم بل كثيرين فى بقاع الكون الذين رددوا نحن لسنا مقاطعين لهذه البضاعة أو تلك بل نحن مستغنون عنها حتى ما بعد تحرير فلسطين.. كل فلسطين..