ومضة من القرن العشرين
محمد زهران
آخر تحديث:
الأحد 7 فبراير 2016 - 9:15 ص
بتوقيت القاهرة
يقول مالكولم جلادويل، الكاتب الكندى ذائع الصيت، فى كتابه الرائع The Outliers والذى يتحدث عن المتميزين أننا نجد فى قصص حياة الناجحين أنهم قد عانوا كثيراً فى طفولتهم، وهذا ما وهبهم همة عالية وقدرة الكبيرة على العمل.
قد يبدو هذا منطقياً و لكن.. مهلاً! هناك كثيرون قد عانوا فى طفولتهم وعملوا بجد ولكنهم لم يحرزوا النجاح أو التميز! فما السر؟
قد يجيب على هذا التساؤل نموذج خارق للعادة.. الدكتور ثروت أنيس الأسيوطى، أستاذ الحقوق بجامعة القاهرة!
كان الثالث بين ستة أخوة، وكما يقول أ. محمود عوض فى فصل عنه فى كتاب "من وجع القلب" أنها المرة الوحيدة التى لم يكن فيها الأول!
اضطر للعمل في مقتبل حياته في وظائف كثيرة: صبياً فى شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج، صبى بقال، عامل فى محل تجارى، مدرس خصوصى، وأعمال أخرى كثيرة.. وقد يبدوا ذلك مجهداً للغاية، خاصة إذا كنت تعمل فى هذه المهن وأنت فى التوجيهية، فماذا كانت النتيجة؟
كان الأول على القطر المصرى كله فى التوجيهية، ثم حصل على ليسانس الحقوق بدرجة امتياز، حصل على الدكتوراه من ألمانيا الغربية (وقتها) بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى سنة ١٩٥٧، وعندما عاد إلى مصر حصل على الدكتوراه الثانية أيضاً مع مرتبة الشرف الأولى، بعد سنتين فقط.. إذا لم انبهارك قد وصل بعد إلى مداه فدعنى أقول لك أن الدكتور ثروت يجيد ثمانية لغات، نعم ثمانية!!
و ليس هذا فقط، بل حصل أيضاً على درجة الأستاذية من جامعة نيويورك، وهذا ما دفعنى إلى السير فى طرقات هذه الجامعة وأنا أشعر بالفخر وأكاد استنطق أحجار مبانيها لتقول لى كيف كان الدكتور ثروت يعمل، علنى أتعلم.
من كتاب محمود عوض نجد بعض الومضات، فقد قضى الدكتور ثروت سنتين فى جامعة نيويورك، وكان يجلس فى مكتبة الجامعة من الثامنة صباحاً وحتى الحادية عشرة مساء فى قراءة بلا انقطاع، كانت نتيجة ذلك كتاب ضخم عن نشأة المذاهب الفلسفية وتطورها - فالدكتور ثروت متخصص فى فلسفة القانون - استعان بـ ١٢٠٠ مرجع (نعم يوجد صفران فى الرقم!).
هل عرفنا سر التميز الذى يقصده مالكولم جلادويل؟ الدكتور ثروت كان يقرأ يومياً مدة لا تقل عن ثمان ساعات، وليس من الغريب إذاً أن مكتبته تضم آلاف الكتب.
إذا هو العمل الدؤوب والصبر عليه والقراءة بمنهجية وليس من أجل الاستمتاع فقط، ولكن ذلك لا يكفى كى تصل إلى نجاح الدكتور ثروت، يجب أن نضيف عليها عبقرية وموهبة هذا العالم العظيم، واتساع قراءاته واطلاعه، فهو ينصح دارسي القانون فى مصر بالقراءة فى علوم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ.. على الأقل!
أى فرع من فروع العلوم ليس جزيرة منعزلة بل لكى تتمكن من علمك يجب أن تجوب الجزر المجاورة وتدرس كيف تتصل ببعضها البعض، ويعتبر كتاب "شخصية مصر" للدكتور جمال حمدان خير دليل على اتصال العلوم وتأثير كل منها على الآخر.
لنعد إلى الدكتور ثروت، الأستاذ الجامعى الذى يقول أن مقياس نجاح الأستاذ هو رأي طلبته فيه، وهى جملة قليلة الكلمات عميقة المعانى، فأستاذ القانون ينتظر دائماً حكم منصة القضاء المكونة من عشرات الطلاب فى قاعة المحاضرات فى محكمة يومية على امتداد عمره الأكاديمى.
إذا أردنا أن نلخص حياة هذا العالم العظيم ، فماذا عسانا أن نقول؟ قدرة أسطورية على العمل، عبقرية، تواضع العلماء.. ومضة من القرن العشرين نرجو أن تضئ الطريق لنا فى القرن الواحد والعشرين.