ماذا تُخبئ لنا التكنولوجيا؟
العالم يفكر
آخر تحديث:
الخميس 7 مارس 2019 - 12:45 ص
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للباحث «حسن الشريف» يتناول فيه قضايا التطور التكنولوجى المختلفة بدءا من تطور الحاسوب وصولا إلى تطور تكنولوجيا الجينات والهندسة الوراثية واحتمالية اندماج الإنسان مع الآلة.
قلما تُطرَح فى الإعلام العربى، أو فى الأدبيات العربية العامة، قضية «إيجابيات التقدُم التكنولوجى وسلبياته» على حياة الإنسانية، من النواحى الاجتماعية والنفسية المُختلفة، على الرغم من أن هناك كُتابات عدة حول هذا الموضوع فى أدبيات عالَمية مختلفة. ويطرح هذا الأمر نفسه بشكلٍ مُلح مع الزيادة المطردة لتداخُل التكنولوجيات البازغة فى حياة الإنسان والمجتمع. إننا غير قادرين على التكيُف المُناسِب مع مثل هذا التداخُل المُتسارِع، سواء من النواحى النفسية أم المُجتمعية، وحتى القانونية والأخلاقية، عدا عن التأثيرات الاقتصادية العامة.
تَطرح التكنولوجيات البازغة والمتعددة الكثير من التساؤلات عن مَخاطرها وفوائدها فى الظرف الراهن وفى المستقبل الأبعد. وإذا كان من الأكيد أن «جودة الحياة المادية» قد تحسَنت بشكلٍ ملحوظ فى القرن الماضى ومطلع القرن الحالى، بسبب التقدُم التكنولوجى، إلا أن هذا التحسُن لم يُرافقه بالضرورة تحسُن مُماثِل فى البيئة الإنسانية العامة، من حيث سعادة الإنسان الذاتية والنفسية.
الأدبيات العالَمية ذات العلاقة تُناقِش تطوُر التكنولوجيات البازغة وتأثيراتها على الإنسان. ومن المستحيل رصْد كل التقدُم المُتسارِع فى التكنولوجيات المُختلفة وتأثيراتها، لذا سنكتفى بذكر أهم تقدُم متوقَع لهذه التطبيقات فى المستقبل المباشر وفى المدى المتوسط.
التقدُم الهائل فى القدرات الحاسوبية
ربما كان التقدُم الهائل فى القدرات الحاسوبية وانتشار تطبيقاتها فى مُختلف نواحى الحياة، من الذكاء الاصطناعى إلى الهندسة الوراثية إلى هذا التداخُل المتزايد والمتوسِع بين الإنسان والحاسوب، هو الأهم والأخطر فى التطور التكنولوجى المذكور.
مَن يُراجِع هذا التطوُر الهائل فى تكنولوجيا الحاسوب يتفاجأ بالسرعة والانتشار الذى طبع هذه التكنولوجيا، منذ وضعها فى ميدان التطبيق فى أواسط القرن الماضى، حيث كان القانون الحاكِم، قانون مور، يتمثَل فى تضاعُف القدرات الحاسوبية وكثافتها فى فترةٍ ما تتراوح بين عامٍ ونصف العام إلى عامَين؛ وهذا يعنى «التصغير» المستمر فى حَجم الحواسيب وانخفاض أسعارها بشكلٍ مستمر.
ومن هنا انتقلنا من الحاسوب الذى كان يملأ مبنى بكامله، إلى الحاسوب الصغير المحمول باليد والمُتمثِل حاليا بالهاتف الذكى النقال. كما انتقلنا من الحاسوب «الحاسِب» ــ الذى كان «متخصصا فى العمليات الحسابية» والمتميز بالسرعة والقدرة الهائلتَين مُقارنَة بقدرات الدماغ البشرى ــ إلى الحاسوب الذكى القادر على مُحاكاة الدماغ البشرى فى الكثير من وظائفه وتخصصاته.
لقد مرَ الحاسوب بقفزات متعددة خلال مَسار هذا التطوُر، وربما كانت أهم تلك القفزات، التالية:
أولا: رقْمَنة تقنيات الاتصالات فى أواسط الثمانينيات من القرن الماضى، وما رافق ذلك من تطورات أوصلتنا إلى الهاتف الذكى المحمول.
ثانيا: «شَعْبَنة» الحواسيب، التى بدأت فى أواسط الثمانينيات أيضا، بظهور الحواسيب الشخصية، بحيث أصبح كل إنسان قادرا على اقتناء حاسوبه الشخصى، يستخدمه فى مختلف التطبيقات «الشعبية»، وصولا أيضا إلى الهاتف الذكى المحمول.
ثالثا: التطوُر الهائل، الذى جمع كل ما سبق، والمتمثِل فى انتقال الإنترنت من «الميدان العسكرى المحصور» إلى الإطار التجارى العام فى تسعينيات القرن الماضى، وما تلا ذلك من تطبيقات مُختلفة ومُتعددة بتنا نعرفها اليوم.
رابعا: الذكاء الاصطناعى: بدأ تطبيق «الذكاء الاصطناعى» بمعناه الأوسع، مع بداية استخدام الحواسيب فى حل شيفرات التعمية، وانتشر ليشمل كل شىء فى حياة الإنسان، بحيث يصعب حصر كل التطورات والتطبيقات المتعلقة بذلك اليوم. والبداية، ربما كانت أتْمَتَة الخطوط الصناعية، ثم التطورات المُتلاحقة للروبوتات، وصولا إلى مختلف الجهود لمُحاكاة الدماغ البشرى فى وظائفه كافة.
وبما أن المجال هنا ليس مُخصَصا للبحث فى الذكاء الاصطناعى بأوجهه كافة، فلا بد من طرْح بعض الأسئلة الحساسة المتعلقة به:
أولا: ماذا يجرى عندما يستطيع الإنسان تطوير حاسوب فائق بقدراته وسرعته يكون قادرا على مُحاكاة قدرات الدماغ البشرى بالكامل؟ ولا بد هنا من الإشارة إلى المشروع الذى تنفذه جامعة مانشستر فى إنجلترا فى هذا المجال. فمنذ فترة وجيزة أَطلق العُلماء فى جامعة مانشستر أكبر «دماغ آلى»، على شكل حاسوب يحتوى على أضخم وحدة مركزية «مفكِرة»، يأملون أن تعمل على غرار عمل الدماغ؛ ويضم هذا الحاسوب أكثر من مليون مُعالج صغرى، ويعمل بنظام يُشابه شبكات الأعصاب عند الإنسان، وبما يختلف عن طريقة عمل الحواسيب المُشابِهة الأخرى، وبشكل أسرع من أى حاسوب آخرٍ إلى اليوم. وسوف يُستخدم بشكلٍ أساس لتطوير نماذج متقدمة للدماغ البشرى بأجزائه المُختلفة.
ثانيا: هناك جهد حثيث، على المستوى العالَمى، ليس لتوسيع القدرات الحاسوبية فحسب، ولكن أيضا لتعميق وظائفها وترابطها فى شبكات عالَمية موسَعة. من ذلك تطوير «مَكتبة إلكترونية» عالَمية تضم كامل إنتاج الحضارة البشرية؛ وتطوير الترابط الحاسوبى وخدماته، من خلال العديد من الأساليب، ومنها الحَوسبة السحابية وإنترنت الأشياء وأخيرا إنترنت الأجسام... إلخ.
السؤال الحتمى هنا، هل تصل هذه الكتلة الضخمة والمُتعاظمة من الحواسيب المترابطة إلى مرحلة الوعى الذاتى، وبشكل يجعلها مُستقلة عن التدخُل البشرى؟
تطور تكنولوجيا الجينات، والهندسة الوراثية، وعلوم الأعصاب والدماغ
ثمة تطور تكنولوجى هائل آخر، ما زال فى بداياته، فى علوم وتكنولوجيا الجينات، والهندسة الوراثية، وعلوم الأعصاب والدماغ. فقد بدأ عهد «البيوتكنولوجيا» فى أواسط القرن الماضى مع اكتشاف الحلقتَين الحلزونيتَين للحمض النووى DNA، الذى يشكِل اللبنة الأساسية للجينات الوراثية. وقد كانت هذه التكنولوجيا وتطبيقاتها المتنوعة واعِدة جدا فى تحسين جودة حياة البشر وقدراتهم.
ومن المحطات المهمة التى أُنجزت فى هذا المجال، تطبيقات عملية فى الزراعة باستخدام تنمية الأنسجة وتحسينها فى المُختبر لرفْع إنتاجية المَحاصيل؛ وكذلك فى الطب من أجل فهْمٍ أفضل للأمراض الوراثية ومُعالجتها. إلا أن هذه التطبيقات يُمكن وصفها بقمة «جبل الجليد العائم»، مُقارَنَة بما يُمكن أن يتحقَق من تقدِم، فى المدى المتوسط وفى المستقبل الأبعد؛ ومن ذلك ما تحقَق فى السنوات القليلة الفائتة، من قراءة الأفكار برصْد مَوجات الدماغ ودراستها، من خلال تطوير أجهزة جديدة، كما فى جامعة بركلى فى كاليفورنيا، لدراسة النشاطات الكهربائية للدماغ، والعمل على فك شيفرة الموجات الصادرة عن الدماغ لفهم كيفية عمل الدماغ بشكلٍ أعمق «عند التفكير». وكذلك العمل، على المدى الأبعد، على مُعالَجة الأمراض العصبية والدماغية بدراسة هذه المَوجات. ويقدِر الباحثون أنهم سيصلون قريبا إلى تطوير أجهزة قادرة على الدخول إلى أعماق الدماغ لقراءة الأفكار المدفونة فيه، ومن ثم التأثير على هذه الأفكار والمُعتقدات لتغييرها بحسب ما يريد الباحث، سواء لأغراض تجارية أم لأغراض أمنية ــ عسكرية.
فى المقابل، تجرى حاليا تجارب مكثفة، فى جامعة ميتشجان وجامعة روكفلر، فى الولايات المتحدة الأمريكية، لرسْم خريطة الجينات الوراثية للجنين لتحديد الأمراض الوراثية التى يُمكن أن يتعرَض لها الجنين فى حياته بعد ولادته، وهُم يعملون على إعادة صياغة هذه الخريطة وتركيبها لتجنُب هذه الأمراض و/أو علاجها المبكر. لكن هذه الأجهزة والتراكيب يُمكن أن تُستخدم فى المدى المتوسط والطويل لإعادة صوْغ الخارطة الجينية لتغيير كل ما له علاقة بالصفات والخصائص الوراثية للفرد، بما فى ذلك مَهاراته وميوله وقدراته العقلية والجسدية والنفسية. ونَجَحَ باحثون فى جامعة كامبردج، فى المَملَكة المتحدة أيضا، فى «تركيب صناعى» يُقارب جنين فأر، باستخدام الخلايا الجذعية الأولية للفأر. وقد اعتبروا أن هذه هى خطوة أولى على طريق طويلة لتركيب جنين من خلايا جذعية بشرية. وهذا قد يكون من شأنه إعادة تشكيل الخصائص الوراثية «للجنين المركَب»، تبعا لما يرغب به الذين «ركَبوا الجنين»، أو الذين طلبوا منهم القيام بذلك.
تفاعُل الإنسان والآلة وتداخُلهما
تتضافر تطبيقات الحاسوب الجديدة اليوم ــ مثل الذكاء الاصطناعى، والروبوتات على أنواعها، والحقيقة المزيدة والافتراضية، والحوسبة السحابية ــ لوضع تصوُر متقدِم للتشارُك المُثمر فى المستقبل بين الإنسان والحاسوب، ولتغيير الكثير من صيَغ التعامُل المُشترَك فى المجالات كافة: فى التربية، وفى الاقتصاد، وفى الصناعة، وحتى فى السياحة والتسلية، بما يؤدى إلى زيادة الإنتاجية والتنوُع فى هذه المجالات كلها.
هذا التفاعُل سيُعيد صَوْغ مفهوم «الحاسوب» و«الإنسان»، ولاسيما أن «الحواسيب» لن تبقى بالكامل «خارج» جسم الإنسان، وأن هناك تطورا ملحوظا فى الإدماج البيولوجى لرقائق الحواسيب داخل جسم الإنسان لتعظيم قدراته ومَهاراته (النظَر والسمَع واللَمس، وحتى التفكير...إلخ)، بحيث سيكون بالإمكان «زرْع» رقائق قادرة على التفاعُل المباشر مع دماغ الإنسان لتوسيع قدراته الفكرية وتعظيمها، وتسهيل تواصله مع الخارج، من خلال الاتصال المباشر بين الدماغ وشبكة الحواسيب الضخمة، بما فيها من «معلومات» فى المَكتبة الإلكترونية العامة، وبما فيها من «قدرات تفكيرية» أبعد بكثير من قدرة الدماغ البشرى الفردى.
وسيسرع هذا التطوُر، فى المستقبل المتوسط، من عملية الاندماج والتكامل بين الإنسان والحاسوب. «فالحقيقة المزيدة» ستُستخدَم كأداة فى التعلُم المُستمر، وفى تحسين تدريب الأفراد أو إعادة تأهيلهم خلال العمل. و«الحقيقة الافتراضية» ستجعل من الممكن للإنسان المستخدم أن يغطس فى سيناريوهات متعددة كبدائل لحلولٍ مُمكنة. ومن خلال هذه التقنيات، سيسود التعلُم الفورى، لأن القدرة على امتلاك المَعرفة الفورية الجديدة ستجعل هذه المعرفة أكثر قيمة من كل تلك التى تعلمها الإنسان فى السابق.
فى المستقبل البعيد إذا، سيكون من أهداف «الشراكة بين الإنسان والحاسوب»، تسهيل التفكير التجريدى للإنسان، وتيسير إيجاد الحلول للإشكالات ذات الصيغ العَملية الواضحة؛ وتمكين الحاسوب والإنسان من التعاون فى صنْع القرارات وفى السيطرة على الحالات المعقدة، من دون الاعتماد على بَرامِج مقرَرة مُسبقا. وإذا ما افترضنا استحالة «استقلال» الحاسوب بالكامل عن الإنسان، فإن هذه الشراكة ستوكِل الإنسان بوضْع الأهداف وصَوْغ الفرضيات وتحديد المَعايير وتقييم النتائج، ليقوم الحاسوب بالأعمال الروتينية التى لا بد منها للتحضير لاستشراف المستقبل ولاتخاذ القرارات فى التفكير العِلمى والتقنى. ويُمكن لمثل هذه الشراكة أن تنفِذ عمليات فكرية ثقافية متقدمة بشكلٍ أكثر فعالية من حالة الإنسان المستقل بذاته، أى غير المدعوم من الحاسوب.
أخيرا، ماذا بعد
فى روايته الأخيرة «الأصول Origin»، بحثَ دان براون فى أصول تطور الحياة من «نطفة من طين» إلى مرحلة متقدمة تمثَلت بالعرق البشرى، واستشرفَ هذا التطور فى المستقبل، ليصل إلى «مخلوق هجين» يجمع بين الإنسان والحاسوب، ويتمتع بقدرات فائقة فى كل المجالات.
ترى، هل تُخبئ لنا التكنولوجيا مثل هذا التطور فى اندماج الحاسوب بالإنسان؟