فيتنام.. كيف سبقتنا
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الخميس 7 مارس 2019 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
اتجهت قبل عشرة أيام إلى فيتنام مع اتجاه أنظار العالم لعاصمتها هانوى حيث عقدت القمة الثانية التى جمعت الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وكيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية. ومثل اختيار فيتنام لاستضافة هذا الحدث الهام عدة رسائل رمزية وعملية لطرفى التفاوض، لكن جولة المفاوضات تلك فشلت. وسمحت لى تجربة زيارة فيتنام المقارنة بما وصلت له تلك الدولة وما وصلنا له فى مصر سواء فى مجال الاستثمار فى الشعب، أو مجال النمو الاقتصادى والتجارى أو حتى ما يتعلق بقضايا الحريات وحقوق الإنسان.
****
بداية تشهد فيتنام نهضة اقتصادية طبقا لمؤشرات مختلف المؤسسات المحايدة. وعلى الرغم من إرث فيتنام الثقيل فى الماضى من حروب واستعمار وكفاح ومقاومة نتج عنها مآسى كبيرة، إلا أنها استطاعت أن تعيد بناء دولة حديثة فى أقل من ثلاثة عقود. واجه الشعب الفيتنامى فرنسا ثم اليابان ثم فرنسا مرة أخرى ثم الولايات المتحدة وأخيرا الصين. وفى الوقت الذى خسرت فيه مصر ما لا يقل عن 100 ألف بين شهيد وجريح فى حروبها خلال منذ منتصف القرن الماضى، خسرت فيتنام ما لا يقل عن خمسة ملايين شخص. وخلال الحرب الفيتنامية الأخيرة والتى انتهت عام 1975، خسرت الولايات المتحدة أكثر من 58 ألف جندى وجُرح أكثر من 150 ألف آخرين، وعلى الجانب الفيتنامى قُتل مليونان من المدنيين ومليون عسكرى. هذا بالإضافة للتأثيرات المتعلقة بالاستخدام الواسع للألغام الأرضية والمواد المشعة والكيميائية والتى بقيت آثارها لسنوات. وطبقا لدراسة قامت بها جامعة هارفارد، نتج عن الحرب 10 ملايين لاجئ فيتنامى ومليون أرملة و880 ألف طفل يتيم، و362 ألف طفل بلا آباء وثلاثة ملايين عاطل، وبلغت نسبة التضخم عند انتهاء المعارك 900%. ثم قررت واشنطن بعد ذلك مقاطعة فيتنام وعدم التعامل مع نظامها الشيوعى. إلا أن الدولتين بدأتا خطوات تطبيع بطيئة بينهما منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى ووصلت اليوم لعلاقات قوية تجمع العدوين السابقين، وهو ما استدعى أن يقول وزير الخارجية الأسبق جون كيرى وهو أيضا ممن شاركوا كمقاتل فى حرب فيتنام إنه «لم تقم أى دولتين بما قامت به الولايات المتحدة وفيتنام من العمل معا بقوة من أجل تغيير إرث تاريخهما نحو مستقبل أفضل وهو ما لم يكن بالشىء الهين خاصة مع بشاعة التاريخ». ووصلت العلاقات بين هانوى وواشنطن لمرحلة حققت فيتنام فيها عام 2018 فائضا ماليا من مبادلاتها التجارية مع الولايات المتحدة بلغ 39 مليار دولار.
***
تبنى الحزب الشيوعى عام 1986 سياسة الانفتاح والتجديد «دوى موى» وبدأت فيتنام فى تطبيق إصلاحات اقتصادية جادة نتج عنها تحقيق متوسط نسبة نمو تراوحت بين 6% و9% سنويا.
واتبعت فيتنام سياسات انفتاح اقتصادى وجذب استثمارات خارجية خلال السنوات الأخيرة جعلها تحقق واحدة من أسرع معدلات النمو الاقتصادى العالمى. تضاعفت صادرات فيتنام أكثر من 200 مرة بين 1986 و2016 ووصلت لـ 210 مليار دولار عام 2017 منها 80% مواد مصنعة. نجحت فيتنام فى تنويع اقتصادها ومعه نجحت فى الانتقال من دولة نامية فقيرة قبل ثلاثة عقود، إلى دولة التحقت بركب الدول متوسطة الدخل وزاد عدد المستهلكين ليقترب من مائة مليون نسمة، وهو ما جعلها سوقا كبيرة جذابة لرأس المال الخارجى والداخلى. ويكفى أن نذكر أن شركة سامسونج الكورية تعد أكبر شركة عاملة فى فيتنام. وتعد كوريا الجنوبية أحد أكبر الدول المستثمرة فى فيتنام بمقدار 57.7 مليار دولار. وبلغت قيم صادرات شركتى سامسونج وإل جى الكوريتين من منتجات مُصنعة فى فيتنام عام 2018 أكثر من 50 مليار دولار.
وتعطى فيتنام اهتماما خاصا لمجال الزراعة والمزارعين لعلاقاتهم الخاصة بالحزب الشيوعى. وتعد فيتنام اليوم أحد أكبر مصدرى المنتجات الزراعية ذات القدرة التنافسية العالية خاصة فى الأرز (الأولى فى التصدير عالميا) والفواكه. حجم التصدير عام 1986 بلغ 400 مليون دولار، وصل عام 2017 إلى ما يزيد عن 35 مليار دولار. وانخفضت معدلات الفقر فى الريف بصورة كبيرة وتغيرت طبيعة المناطق الريفية لتتجه نحو التحضر وارتفاع مستوى التعليم واستخدام تقنيات حديثة فى الانتاج.
وقضت فيتنام على الأمية بين مواطنيها، وتوفر رعاية صحية مجانية مقبولة لهم. ويرى 88% من الفيتناميين أن أوضاعهم الاقتصادية والمالية والسياسية أفضل مما كانت عليه قبل عشرة أعوام طبقا لاستطلاع أجراه مركز بيو عام 2017. ويعتقد فقط 4% من الفيتناميين أن أوضاعهم تسير فى الطريق الخاطئ. وتقترب جودة تدريس الرياضيات والفيزياء فى المدارس الفيتنامية نظيرتها فى دول متقدمة كألمانيا وفرنسا. وتشير معظم البيانات إلى زيادة معدلات النهضة الاقتصادية الفيتنامية والتى من أهمها خفض نسبة الفقر بين المواطنين وارتفاع نصيبهم من إجمالى الناتج القومى.
***
شهد عام 2018 تشديد سلطات الحزب الشيوعى الحاكم لقبضته السياسية مع عدم التساهل مع أى معارضة سياسية له سواء فى صورة تنظيمات حزبية منافسة أو فى صورة حرية التعبير عن الرأى المخالف سواء فى وسائط التواصل الاجتماعى أو فى وسائل الإعلام. ولا يعرف الفيتناميون حرية الإعلام أو النشر، وإذا خالف أحد القواعد الحكومية المتشددة فى التعبير عن الرأى، تكون التكلفة عالية سواء بالسجن أو الاعتقال التعسفى. كذلك لا تتوافر فى فيتنام وسائل إعلام مستقلة. وأنكر كل من تحدث إليهم من صحفيين فيتناميين وطلاب جامعيين ومسئولين حكوميين سابقين وجود معارضة سياسية. وذكر مسئول سابق رفيع المستوى: «نحن نعرف الوحدة كشعب. نحن حاربنا لتحرير وطننا، والآن نقف صفا واحدا لا خلاف بيننا على ضرورة تحقيق النصر الاقتصادى كما حققنا النصر العسكرى».
ويحتكر الحزب الشيوعى السلطة من خلال سيطرة مطلقة على الحكومة وعلى مختلف التنظيمات السياسية والاجتماعية والعمالية والطلابية المختلفة. وتحظر السلطات الفيتنامية حق التظاهر وحق التجمع لأغراض سياسية. ولا توجد معارضة بالمعنى الواسع لسياسات الحكومة. مع كل ذلك تشير التقارير الغربية المعنية بالحريات والحقوق الشخصية إلى محاكمات واعتقالات لـ 12 شخصا عام 2018 بتهم «استخدام البروباجندا ضد الدولة» وحكم عليهم بالسجن لفترات تتراوح بين أربعة واثنى عشر عاما. ويسبب سجل حقوق الإنسان السيئ لفيتنام الكثير من الحرج لأصدقاء فيتنام فى الخارج. وتصف تقارير وزارة الخارجية الأمريكية المتعلقة بحقوق الإنسان فيتنام بأنها «دولة مستبدة تخضع لسيطرة الحزب الشيوعى الفيتنامى». ولا تعرف فيتنام انتخابات حرة إلا داخل الدائرة العليا للحزب الحاكم لذا فهى لا تعرف تأليه حكم الشخص الواحد، وهو ما يراه بعض الفيتناميين شيئا إيجابيا.
وذكر مسئول فيتنامى سابق لى أنه: «عندما نتحدث عن دولة يقترب سكانها من مائة مليون نسمة، وتتحدث المنظمات الحقوقية الغربية عن اعتقال ومحاكمة عشرات الأشخاص، فهذا سجل جيد مقارنة بدول أخرى كثيرة»، وأضاف: «الأهم هو عدم إهانة المواطن الفيتنامى، الحكومة تساعد مواطنيها على التقدم للأمام ونحن لا نعرف التعذيب الذى تعرفه دول أخرى».
***
وفى الوقت الذى يتطلع الكثير من الفيتناميين لتكرار تجربة اليابان أو كوريا الجنوبية فى بلدهم، يخشى البعض منهم أن تتجه نخبة الحزب الشيوعى الحاكم إلى تجربة النموذج الصينى.
كاتب صحفى يكتب من واشنطن
الاقتباس
نجحت فيتنام فى تنويع اقتصادها ومعه نجحت فى الانتقال من دولة نامية فقيرة قبل ثلاثة عقود، إلى دولة التحقت بركب الدول متوسطة الدخل وزاد عدد المستهلكين ليقترب من مائة مليون نسمة، وهو ما جعلها سوقا كبيرة جذابة لرأس المال الخارجى والداخلى.