طوعا لأحكام القضاء/ خطى على هذا الثرى خطو اليتيم المعدم /متجردا من كل جاه ظاهر/ وبغير جاه الله لم يستعصم.
هكذا عبر النشقبندى بصوته الرائع عن يتم الرسول «صلى الله عليه وسلم» وأن الله قدره عليه ليتجرد من كل جاه ظاهر وأن يرتبط بقلبه ومشاعره وكليته بربه ومولاه الحق سبحانه، ويربيه المولى سبحانه.
لم يكن النبى محمد متفردا فى اليتم وحده دون الأنبياء، فقد شاءت الأقدار العلوية بحكمتها أن تجعل عيسى أيضا بلا أب على الإطلاق، وأن يكون ذلك جزءا من محنته الكبرى التى تعرض لها مع والدته العذراء البتول «مريم» عليهما السلام التى شرفها القرآن وشرف بها وجعل لها سورة كاملة باسمها.
فاجتمع على المسيح مشقة غياب الأب وألم محنة الطعن فى عرضه وعرض أمه زورا وبهتانا، ولم يكن محمد وعيسى عليهما السلام وحدهما فى محنة اليتم، ولكن سبقهما إليها نبى الله العظيم رائد مقاومة الاستبداد والظلم «موسى عليه السلام»، الذى ربته والدته وشقيقته، ووصف القرآن العظيم بدقة مسئولية أم موسى العظيمة والثقيلة تجاهه وكيف كرمها الله بالوحى والإلهام «وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ.. فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى.. إِنَا رَادُوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».
خلت قصة موسى فى القرآن من ذكر الأب لأنه ولد يتيم، فاجتمع عليهما مع اليتم تهديد فرعون بقتل أطفال كل بنى إسرائيل هذا العام، لك أن تتصور أم اليتيم موسى حينما تخاف عليه تلقيه فى نهر النيل المبارك الذى جعله لله وسادة ومهدا لطفولة هذا النبى العظيم.
ترى ما الحكمة أن يكون هؤلاء الأنبياء الثلاثة العظام بغير أب، وأن تقوم الأم بدورها مع المسيح وموسى، وأن يعيش محمد «صلى الله عليه وسلم «بغير أب ولا أم؟!».
العلل أكثر من أن تحصى، لكى يربيهم الله على عينه سبحانه «وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِى» وأن يكون توكلهم عليه وحده، وليس لهم جاه يتيهون به سوى جاهه سبحانه، ولا يقول أبى ولكن يقول ربى ربى، ولكى يشعرهم بالفقراء واليتامى والضعفاء فيكون هؤلاء الأولى برعايتهم وحبهم وعطفهم، ولذا كان هتاف الحبيب محمد «ص» «أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهاتين»، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى.
وإذا كان هؤلاء الأيتام العظام موسى بن عمران، عيسى بن مريم، محمد بن عبدالله عليهم السلام قد غيروا مجرى التاريخ وأقاموا العدل وقربوا الخلق من الحق وصدعوا بالحق ورحموا الخلق، فإن ثلة كبيرة من الأيتام من اتباع الرسل غيروا مجرى التاريخ فى كل المجالات فهذا أبوحامد الغزالى فقد أباه صغيرا فرباه صوفى صالح مدة ثم وضعه فى مدرسة خيرية فإذا باليتم تهتز له الدنيا ويصير «حجة الإسلام» الذى ملأ الدنيا علما وحكمة وزهدا وورعا.
وهذا اليتم «ابن الجوزى» أعظم خطباء ودعاة عصره والذى كان يحضر مجلسه للوعظ مائة ألف إنسان وأسلم على يديه عشرون ألفا وتاب على يديه مائتى ألف وكتب قرابة مائتى كتاب وبدأ فى الكتابة وعمره لا يجاوز 17 عاما، ومات والده وعمره ثلاث سنوات فربته عمته وكانت مربية صالحة.
ومن أعظم الأيتام الإمام الشافعى الذى أدخل عدة علوم على الفقه الإسلامى أشهرها علم أصول الفقه وأعظم من استخدم القياس بعد أبى حنيفة، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل الذى هزم بصبره خليفتين وتوج صبره بوسام «إمام أهل السنة» وكأن نصف أصحاب المذاهب السنية الكبرى كانوا يتامى أيضا، ومنهم الإمام البخارى أسطورة علم الحديث الخالدة والذى يجرحه البعض اليوم زورا وبهتانا.
ومن أفذاذ الأيتام العلامة الصوفى الزاهد جلال الدين السيوطى الذى اعتبره من أعظم مؤلفى وعلماء الإسلامى علما وإنتاجا وسماحة ورقيا وطيب نفس مع زهد وورع فقد جاوزت كتبه الألف كتاب منها مازال يدرس حتى اليوم.
ومنهم العلامة «ابن حجر العسقلانى» أعظم شراح الحديث، ومنهم المحدث الشهير «الأوزاعى» الذى ما زال يطلق اسمه على منطقة شهيرة بلبنان، حيث كان أعظم علماء الشام.
ومنهم أعظم شعراء العرب «المتنبى» الناس يستدلون بأبيات من شعره حتى اليوم، ولعل الناس ىيستدلون بأشعار المتنبى أكثر مما يستدلون به من شعرائنا المعاصرين.
ومنهم الشاعر العظيم حافظ إبراهيم الذى عاش طفولته يتيم الأبوين فكفله خاله الذى ضاق برعايته فتركه اليتيم منشدا أجمل أبياته تأثيرا على النفس الرقيقة.
ثقلت عليك مئونتى إنى أراها واهية
فافرح فإنى ذاهب متوجه فى داهية
وقد كان حافظ يمثل نبض الوطنية المصرية ومقاومة الانجليز الوطنى وأعظم معبر عن أحاسيس الشعب وعندما مات رثاه شوقى بأعظم بيت.
قَد كُنتُ أوثِـرُ أَن تَقـولَ رِثائـى *** يا مُنصِفَ المَوتى مِـنَ الأَحيـاءِ
أما أعظم القادة الأيتام الذين غيروا مجرى التاريخ فمنهم طارق بن زياد فاتح الأندلس، وعماد الدين زنكى أول من قاوم الصليبيين وهزمهم، وعبدالرحمن الداخل الذى أسس الدولة الأموية فى الأندلس، الظاهر بيبرس الذى لم يهزم فى معركة قط وهو الصانع الحقيقى لنصر عين جالوت، والذى دوخ التتار والصليبيين معا وهزمهم أشد الهزائم، غاندى الذى هزم الاستعمار الانجليزى بالمقاومة السلمية.
ومنهم عمر المختار الذى قاد الجهاد الليبى بأبسط الأسلحة ضد الاستعمار الايطالى المدمج بالمدفعية والطائرات وسطر ببطولاته وجهاده صفحات خالدة ولقى الله شهيدا.
ومنهم «جورج واشنطن» أول رئيس أمريكى وهو الذى وحد الولايات الأمريكية وجعلها دولة فيدرالية واحدة، وإبراهام لينكولن الحاكم الفيلسوف الذى ما تزال حكمته فى أذهان الأمريكيين والعالم حتى اليوم.
ومنهم «جمال عبدالناصر» الذى تحدى اليتم والفقر والاستعمار وقاد أكبر حركة تحرر من الاستعمار فى تاريخ العرب وأفريقيا، وأحمد ياسين الشهيد القعيد الذى أخاف إسرائيل وجيشها رغم معاناته من الشلل الرباعى، ونيلسون مانديلا أعظم حكام أفريقيا وأكثرهم عفوا ورحمة وزهدا فى كراسى السلطة.
لقد تجاوز هؤلاء جميعا عقبات اليتم، وتساموا على كسرته، وارتفعوا على عتبات ذله وهوانه، وسمت نفوسهم على ضعف اليتم وانكساره، فهؤلاء جميعا عاشوا مع أوصياء وكفلاء رحماء ربوهم على الفضيلة وعلموهم معالى الأمور والترفع عن سفاسفها.
ولو أن هؤلاء عاشوا فى بيئة مثل دور الأيتام فى بلادنا التى يتعلم فيها اليتيم الانكسار والهوان ويلاقى ألوان الذل والعذاب والخلل الأخلاقى والقيمى لما كان أحد هؤلاء من النوابغ، فلنعد لسابق العهد بأن تقوم كل أسرة بكفالة يتيم بين أولادها ويرضع من أحد المحارم ليكون محرما للأسرة حينما يكبر، فينشأ نشأة طبيعية وسوية، وأن يكون لكل يتيم معاش جيد يكفل له الحياة الكريمة.
وليس هذا قدحا فى دور الأيتام ولكنها ليست الأمثل فى التربية، وهى استثناء وليست أصلا كحاضنة تربوية، كما أن معظم القائمين عليها ليسوا من ذوى الرسالة ولكن من الموظفين المنتفعين الذين يعتبرون الأيتام مصدرا لغناهم.