معايير الإبداع والتلقى فى الوطن العربى
صحافة عربية
آخر تحديث:
السبت 7 أبريل 2018 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
قبل سنوات عديدة، وقبل شيوع ظاهرة كتّاب «السوشيال ميديا النجوم»، كتب رئيس مؤسسة الشعر الأمريكية والمدرس فى كلية بينينغتون جون بار، مقالا مطولا، نظّر فيه إلى أن الشعر الجديد أصبح ضرورة ملحة الآن، «لأن الطريقة التى اعتاد أن يكتب بها الشعراء لم تعد صالحة لهذا العصر»؛ ولأن «الحقيقة تنمو أكثر من الشكل الفنى، ولم يعد ممكنا للشكل الفنى أن يساوى الحقيقة من حوله».
جون بار، كان محقا كثيرا فى كلامه، لكنه، بالتأكيد، لم يكن يعنى تحوّل ساحة الإبداع إلى مهرجين وحُواة. على «يوتيوب»، وتحت عنوان «القصيدة التى أبكت الملايين»، سنجد «تهبيلا» كبيرا من شخص يتابعه مئات الآلاف، بذريعة أنه «شاعر» و«نجم»، ولكن حين ندقق فى العبارات والجمل والسياقات، سوف تصدمنا السطحية الكبيرة التى يصوغ بها هذا الشخص أفكاره ويعبر عنها.
هذا «الشاعر»، وغيره كثيرون، أصبحوا جماهيريين فى الحقبة الجديدة التى ازدهرت فيها العديد من الظواهر، وأفرزت نجوما فى مواقع التواصل الاجتماعى. وهى حقبة مليئة بالخراب، وتذكرنا كثيرا بعصر الانحطاط العربى فى الإنتاج الفكرى والإبداعى، والذى تم تدشينه مع سقوط بغداد فى العام 1258.
قد نفهم أسباب انحدار الأدب والإبداع فى تلك الفترة التى حكمها المماليك والعثمانيون، فلم يعيروا الشعر أى أهمية، ما أسهم فى تراجعه من الحياة العامة، وجعل الأدب فى مرتبة متأخرة من المجتمع، وهو الأمر الذى أدى إلى حالة من التردى فى الإبداع بشكل عام.
كان لزاما على العرب الانتظار زهاء ستة قرون من أجل ظهور تيارات جديدة، ومجددين فى الأدب، أخذوا على عاتقهم إعادة الشعر إلى طريقه، وجر وعى العامة إليه، من خلال جعله يناقش الهموم المجتمعية، والاهتمامات العامة.
اليوم، نعيش الانحطاط نفسه الذى يعلى من قيمة «الظواهر» على حساب المضمون، والصوت المرتفع على حساب الجماليات، والشعبوية على حساب الفكر، فمواقع التواصل الاجتماعى استطاعت أن تنخر عميقا فى أساس عمليتى الإبداع والتلقى اللتين كانتا نخبويتين فيما سبق، وعملت على تدميرهما لمصلحة «ظواهر» ستختفى فجأة كما جاءت فجأة.
الإبداع العربى لا ينقصه مجددون أو قمم إبداعية، فهناك نماذج عربية تصل إلى العالمية بما تنتجه من مدونات شعرية وسردية، ولكن المشكلة فى الفوضى الكبيرة التى تخلفها المشاعية فى الإنتاج الإبداعى، واشتراطات التلقى الحديثة، والتى جعلت من العوام «مبدعين» و«نقادا»، وفرضت «ذوقها» الهابط على كل ما يحيط بنا.
يؤكد نقاد غربيون ينظّرون اليوم لإمكانية عودة الشعر إلى الواجهة من جديد، أن على الشعر أن يجمع معيارا للمسرة، أو الترفيه، إلى جانب العمق، وهو كلام قد يشتمل على حقيقة كبيرة، فالإنسان خليط من المتناقضات، ومهمة الشعر بشكل خاص تتأسس على إدراك ماذا يعنى أن تكون إنسانا.
ولكن ماذا عن نجوم «السوشال ميديا؟»، بالتأكيد أننا لا نريد إسكات «كتابة الجمهور»، فكل شخص له الحق فى التعبير عن نفسه، ولكن تراث الشعر يرغمنا على البحث عن أفضل الموجود، والاحتفاء به، لا أن نحتفى بتعابير سطحية لا تشتمل على أى عمق!
لكن علينا أن نعى حقيقة مؤكدة: نحن نعيش فى هذا الانحطاط اليوم ليس لأنه لا يوجد مبدعون، بل لأن حجم الرداءة كبير جدا، وعلى كامل التراب العربى.
موفق ملكاوى
الغد ــ الأردن