الدرجة العلمية.. وما بعدها
محمد زهران
آخر تحديث:
السبت 7 مايو 2016 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
ينبهر الناس بشيئين: الدرجة العلمية العالية والمدة التي تم الحصول فيها على هذه الدرجة، فنحن عادة نربط الدرجة العلمية بالمعرفة ونربط المدة بالذكاء، عندما ترى أحدا يسبق اسمه الـ"د." فأنت تفترض أنه يعرف الكثير في مجال تخصصه، قد يكون هذا صحيحاً عندما حصل على الدرجة ولكن هل مازال صحيحاً بعد مرور عشر سنوات مثلاً على حصوله على الدرجة؟ إذا كان هذا الشخص ينشر أبحاثاً في مجلات أو مؤتمرات محترمة في مجاله فهذا معناه أنه مازال مطلعاً على الحديث من علمه ويتفكر فيه ويبدع الجديد فيه، ولكن ليس كل من حصل على الدكتوراه يعمل في البحث العلمى، فماذا إذا كان يعمل في الصناعة مثلاً أو كاستشارى؟ إذا كان ناجحاً (النجاح الحقيقى وليس النجاح المعتمد فقط على العلاقات) في عمله فهذا دليل على إحاطته بالحديث من تخصصه وبراعته في تطبيقه، فماذا إذا لم يكن هذا أو ذاك؟ شخص حصل على الدكتوراه من عشر سنوات ولم ينشر شيئاً ولم يعمل في مجال تخصصه، فماذا بقى من هذه الـ"د."؟ إذا كان قد حصل عليها من جامعة مرموقة وتعلم فيها بجد (الشرطان معاً) فسيكون معه مهارة التفكير العلمى والنقدى الذى يمكن تطبيقه في مجالات شتى، ولهذا نرى الكثير من العلماء قد حصلوا على الدكتوراه في تخصص ثم أبدعوا في تخصص آخر، عالم الرياضيات والفلسفة الألماني العظيم جوتفيرد ليبنيز (Gottfried Wilhelm Leibniz) حاصل على الدكتوراه في القانون!
أما إذا لم يكن الشخص الحاصل على الدكتوراه يقوم بأبحاث أو يساهم في الصناعة أو يستخدم التفكير العلمى السليم في مجال آخر فلا تكترث بهذه الـ"د." ولا تنبهر بها.. فماذا عن المدة التي تم الحصول فيها على الدرجة؟ نحن نعتبر أن من يحصل على الدرجة في مدة قصيرة هو عبقرى، وهذا إلى حد ما صحيح ولكن يؤكده ما بعده أي ما فعله هذا الشخص بعد حصوله على الدرجة، هل ظهرت عبقريته بعد ذلك؟ إذا لم تظهر هذه العبقرية في أي شيء آخر بعد التخرج فهذا معناه أن هذا الشخص كان محظوظاً فقط أثناء الدراسة: جاءت نتائج البحث مبشرة سريعاً بضربة حظ أو المشرف يريد تخريج طلبة سريعاً للحصول على ترقية أو للتقاعد أو أي سبب آخر.. ما أريد قوله هو ألا تنبهر بالدرجة حتى ترى نتائجها.. فماذا لو كان هذا الشخص حاصل على عدة درجات علمية؟ كيف نقيمه؟
شخصيتنا اليوم هو دكتور "خمس مرات" بالإضافة إلى ست دبلومات.. إنه دكتور مضروب في خمسة.. الدكتور حامد عبدالله ربيع أستاذ العلوم السياسية والاقتصاد بجامعة القاهرة المولود بصعيد مصر عام 1925، حصل على ثلاث شهادات دكتوراه من جامعات إيطاليا: واحدة فى علم الاجتماع التاريخي لمجتمعات البحر المتوسط من جامعة روما عام 1950 وأخرى في فلسفة القانون عام 1951(!!) ثم ثالثة في العلوم النقابية تخصص اقتصاديات العمل عام 1954، قبل أن نتكلم عن الدكتوراه الرابعة والخامسة من فرنسا يجب أن نذكر شيئاً مثيراً في بعثة إيطاليا التي بدأها عام 1948، أثناء هذه البعثة عاش الدكتور حامد ربيع عشر سنوات في دير "سان فرانشيسكو" بالفاتيكان حيث عايش الرهبان و درس الكثير من العلوم من المصادر الأصلية بل و أتقن اللاتينية، هذا التجرد و الإنقطاع التام للعلم هو ما ساعده على القيام بدراساته الأسطورية، بعد إيطاليا نال الدكتور حامد درجة دكتوراه الدولة في العلوم القانونية من جامعة باريس عام 1959، ثم درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من نفس الجامعة عام 1963. ولن نتكلم عن الدبلومات أو شهادة الـ(Agrégation) المروموقة من فرنسا!
إذا نظرنا إلى هذه التخصصات التي درسها الدكتور حامد ربيع بعمق وصل إلى الدكتوراه لوجدنا أن هناك خيطاً يصل بينها، هذا الخيط هو النظرية السياسية و تعريفها كما يقوله الدكتور في حديثه الرائع مع محمود عوض (الرائع أيضاً) في كتاب هذا الأخير "من وجع القلب": مختلف الوسائل والأدوات الفكرية والتجريبية التي تسمح بالتحكم في النشاط السياسي". ويستطرد الدكتور في هذا الحديث ويقول: "عالم النظرية السياسية عندماً يحلل موقفاً سياسياً معيناً يظل يجمع العناصر المتناثرة ثم يلجأ إلى علمه وخياله معاً لكى يخرج في النهاية بصورة متماسكة تعبر بقدر الإمكان عن الواقع الحى"، وهنا يجب أن نذكر أن عالمنا كان بارعاً جداً في التنبؤ السياسي.. و الآن ماذا بعد الحصول على كل هذه الخبرات والشهادات؟ هل ننبهر؟.. فلننتظر قليلا.
الدكتور حامد ربيع قام بإنشاء مركز الدراسات الإنمائية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة وأشرف على إنشاء المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية المصرية وعمل أستاذ خارجي في جامعات الخرطوم وبغداد وروما وباريس ودمشق والجزائر والكويت ومحمد بن سعود وجامعة ميتشيجان الأمريكية بل وله أكثر من 40 كتاباً وعدة مئات من المقالات العلمية.. ومناصب أخرى تجعل هذه القائمة طويلة للغاية ... الآن آن لنا أن ننبهر!
رحم الله الدكتور حامد ربيع الذى توفى عام 1989 في ظروف مازال يكتنفها الغموض حتى الآن.. أحب أن أقول لأجيالنا الشابة من العلماء أو من يريدون أن يسلكوا هذا الطريق: لا تنبهر بالدرجات العلمية و ا تسعى لها لمجرد إبهار الآخرين، يجب أن يكون عندك مشروع معرفى تتحرك من خلاله، عندها سيكون العلم طوع بنانك لتحسين هذه الحياة التي نحياها.