الدكتور لويس عوض.. المثقف الموسوعى الجامح

سامح مرقص
سامح مرقص

آخر تحديث: الأربعاء 7 مايو 2025 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

يُعتبر لويس عوض من أبرز المفكرين فى تاريخ مصر الحديث. وُلد فى 5 يناير 1915 بمحافظة المنيا، تأثر بوالده (حنا عوض) الذى كان مهتمًا بالثقافة والتعليم، حصل على ليسانس الأدب الإنجليزى من جامعة القاهرة عام 1937، ثم ماجستير من جامعة كامبريدج عام 1943، ودكتوراه من جامعة برينستون عام 1953. شغل مناصب ثقافية وأكاديمية مختلفة وكان أول رئيس مصرى لقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، جامعة القاهرة.
ارتبط (لويس عوض) بعلاقة قوية مع الدكتور طه حسين، وتعلم منه الجرأة فى النقد العلمى للتراث والاهتمام بالتجديد الثقافى. واصل (لويس عوض) مشروعه الثقافى مؤمنًا بأن ثورة الفكر هى التى قادت النهضة الأوروبية. نشر 57 كتابًا، أربعة منهم يناقشهم هذا المقال، وكتابه «الهام فى فقه اللغة العربية» فقد نوقش فى مقال آخر لم يُنشر بعد.
رواية «العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح»
اهتم لويس عوض بالقضايا السياسية وكان متحمسًا للأفكار الاشتراكية الديمقراطية، والمذهب الإنسانى (Humanism) الذى يحترم كرامة الإنسان وحرية الفكر، ويدعو إلى التعاون بين البشر من أجل الصالح العام.
كان لدى لويس عوض تحفظات على الفكر الماركسى، ورفض حتمية ديكتاتورية الطبقة العاملة، وفى روايته «العنقاء» انتقد تصرفات بعض الشيوعيين من خلال الشخصية الرئيسية (حسن مفتاح) سكرتير عام اللجنة المركزية للحزب الشيوعى المصرى، الذى كان سكيرًا، ويعانى من هشاشة فكرية وميل للخيانة، إذ خان رفيقه وعاشر زوجته الأرستقراطية، وكانت خيانته الكبرى تعاونه مع الحكومة فى اتهام الحزب الشيوعى المصرى بتدبير مؤامرة بقلب نظام الحكم.
وبينما أشاد توفيق الحكيم والدكتور حسين فوزى بالرواية أدانها الشيوعيون لتشويه مواقفهم الفكرية وتصويرها المبالغ فيه للشيوعى المصرى.
كتب لويس عوض هذه الرواية عام 1946 ولكنها لم تنشر حتى عام 1966 حيث رفض (أبو بكر حمدى سيف النصر) صديق (لويس عوض) طباعتها؛ لأنها تسىء إلى الحركة الشيوعية المصرية٠
تاريخ الفكر المصرى الحديث
قام الكاتب (إيهاب الملاح)، الباحث المتخصص فى التراث الثقافى، بجمع كل ما كتبه لويس عوض فى أجزاء متفرقة بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضى فى نسخة كاملة متواصلة ومرتبة زمنيًا وتاريخيًا، مع مقدمة تحليلية رائعة نشرته دار المحروسة فى ثلاثة مجلدات فى عام 2022.
يتضمَّن المجلد الأول الانفجارات الثورية فى مصر قبل الحملة الفرنسية، وبناء الدولة الحديثة، ودراسة لشخصيات تاريخية مهمة مثل: (عبد الرحمن الجبرتى) أحد كبار المؤرخين فى التاريخ العربى والإسلامى، (رفاعه الطهطاوى) الذى يعتبر أبو الفكر المصرى الحديث، واللبنانى (أحمد فارس الشِّدياق) أحد رواد النهضة العربية الحديثة. كما تضمن هذا المجلد أيضا تاريخ المعلم يعقوب الذى اتهم بالخيانة والتعاون مع الغزو الفرنسى، ولكن لويس عوض قدمه، وفقًا للوثائق التاريخية، كصاحب مشروع استقلال مصر فى اتصالاته مع الإنجليز. وكان يحلم ببناء جيش مصرى لمواجهة الأتراك والمماليك، وإقامة حكومة وطنية يكون هدفها الأساسى تحسين أحوال الفلاحين. أغضب هذا الطرح كثيرا من المثقفين، وبدلا من مناقشته بشكل موضوعى تلقى منهم الشتائم والاتهامات.
يتناول المجلد الثانى ملحمة قناة السويس، والاحتلال البريطانى بعد سحق ثورة عرابى، وصعود الأرستقراطية والبرجوازية المصرية، وظهور الأحزاب السياسية فى مصر، والصراع بين الصحافة والرقابة، وتفاصيل تاريخ وادى النيل.
حيث يتضمن المجلد الثالث تحليلًا لفكر (جمال الدين الأفغانى) و(محمد عبده) و(عبد الله النديم) و(يعقوب صنوع) أحد أبرز رموز تاريخ المسرح والصحافة المصرية.
يقدم هذا الكتاب الموسوعى التيارات الفكرية المختلفة التى شكلت الهوية المصرية، وشملت التيار الدينى ودور الأزهر، والتيار الليبرالى الذى ازدهر بعد ثورة 1919 تحت زعامة (سعد زغلول) وتيار الوطنية المصرية بقيادة (مصطفى كامل) الذى رفض الاستعمار الأوروبى وقبل الاستعمار التركى والارتباط بالخلافة الإسلامية، والتيار اليسارى وتأثيره على الحركات العمالية.
يناقش الكتاب أيضا دور المثقف فى تحقيق التوازن بين التمسك بالهوية الوطنية والانفتاح على الفكر العالمى، والحاجة إلى الحرية الفكرية كشرط أساسى للإبداع والنهوض الثقافى، ودور الترجمة والتعليم كجسر بين الثقافتين المصرية والغربية.
أقنعة الناصرية السبعة
اهتم لويس عوض بتقييم الحقبة الناصرية وقدمها فى كتاب نشر عام 1976، وصف فيه أقنعة (جمال عبدالناصر) السبعة؛
أولا الاشتراكى: لأنه تبنى سياسات اقتصادية اشتراكية.
ثانيا الوطنى: نظرًا لتركيزه على مقاومة الاستعمار.
ثالثا الديمقراطى: حيث ادعى الالتزام بالديمقراطية، بينما كان يدير نظامًا استبداديًا.
رابعا الإسلامى: لأنه استغل الدين لأغراض سياسية.
خامسا التحررى: لدعمه حركات التحرير فى العالم.
سادسا الثورى: لأنه قدم نفسه رائدًا للإصلاح السياسى.
سابعا القومى: إذ ركز جهود كبيرة على فكرة الوحدة والقومية العربية.
كان لويس عوض موضوعيًا فى نقده للناصرية، دون مرارة أو شماتة. وناقش أسباب فشل إدارة القطاع العام، وأهمها الاعتماد على أهل الثقة وليس أهل المعرفة والخبرة، وأوضح أنه ترك شعبه كما تسلمه من الملك فاروق حيث نسبة الأمية ٫57% ومتوسط دخل الفرد 50 جنيهًا سنويًا، ومتوسط عدد الأمراض حوالى ثلاثة للفرد.
كما ينتقد لويس عوض فى كتابه هجمات بعض المثقفين، مثل توفيق الحكيم، على حُكم عبد الناصر بعد وفاته وتمجيده أثناء حياته.
أوراق العمر سنوات التكوين
صدر الكتاب عام 1989، واقتصر على سرد حياة لويس عوض حتى أواخر ثلاثينيات القرن الماضى. وللأسف توفى بعد أشهر قليلة من نشره، ولم يتمكن من كتابة الجزء الثانى.
يسلط الكتاب الضوء على مراحل تكوينه الفكرى والثقافى؛ متأثرًا بالأحداث السياسية والاجتماعية التى شهدتها مصر خلال القرن العشرين. يذكر نشأته فى الخرطوم التى جعلته متحمسًا لوحدة وادى النيل، ويتحدث عن ارتباطه الفكرى بحزب الوفد الذى تبلورت فيه الهوية المصرية، والوحدة الوطنية والليبرالية والديمقراطية.
لم يكن الدين قضية محورية فى مشروع لويس عوض الفكرى الذى التزم بإخضاع الماضى الثقافى العربى للمنهج العقلانى وغربلته والحفاظ على ما يتناسب مع طبيعة العصر، والتخلص من كل ما يُعرقل عملية التطور.
تحدث لويس عوض عن أسرته بصراحة مدهشة وقدم وصفًا صادمًا لإخوته حيث وصف أخته (مرجريت) بالعبيطة؛ نتيجة توقف النمو العقلى عند مرحلة الطفولة، واعتبر شقيقه الأصغر (رمسيس عوض) متوسط الذكاء ولم يذكر ما يعيبه هو شخصيًا سوى تجربته الجنسية الأولى مع عاهرة فى مدينة بنى سويف. تحدث أيضًا عن خلافه مع والده الذى أراد له الالتحاق بكلية الحقوق، بينما أراد هو الالتحاق بكلية الآداب، نتج عن ذلك سفره إلى القاهرة بخمسة جنيهات فقط فى جيبه، واضطراره للبحث عن عمل فى أحد الجرائد لتغطية نفقات معيشته كطالب جامعى.
كما ذكر لويس عوض علاقته بالمثقفين المصريين وحضوره صالون العقاد الثقافى فى منزله. وعندما قررت الجامعة إيفاده فى بعثة إلى كامبريدج، قرر زيارة العقاد لمعرفة رأيه فى موضوع الرسالة «تقاليد التعبير الشعرى فى الأدبين الإنجليزى والفرنسى». انتقد العقاد موضوع البحث بسخرية؛ لابتعاده عن واقع حياة معظم الناس، وهو ما ينبغى أن يكون محور البحث الجامعى. وقد تسبب هذا النقد فى ألم شديد للويس عوض.
الخلاصة، كان الدكتور لويس عوض قامة فريدة فى سماء الثقافة المصرية، وكان مترجمًا مبدعًا، وناقدًا أدبيًا موسوع الثقافة ومؤرخًا قديرًا، وخبيرًا فى علم وفقه اللغة، وداعيًا إلى تحكيم العقل فى كل الأمور. لم يتملق أى حاكم، وفى عهد عبد الناصر تم فصله من الجامعة، واعتُقل مع الشيوعيين، وفى عهد السادات رأى أن عبارات مثل «دولة العلم والإيمان» و«الرئيس المؤمن»، وغيرها من التعبيرات الدينية ستمهد الطريق لتدمير هوية مصر، وتشويه ملامحها الثقافية٠
فى الختام، نستذكر ما قاله الباحث (إيهاب الملاح) عن لويس عوض: إن موسوعية لويس عوض مذهلة ونادرة المثال بكل المقاييس فهو المتمرد صاحب العقل الجامح الذى لا يأبه أبدًا لما يطرحه من أسئلة أو يثيره من إشكاليات، وكثيرًا من الأسئلة التى يطرحها كانت تؤرق الوعى المحافظ وتستفز العقول الجامدة.
لم ينل لويس عوض التقدير الذى يستحقه فى حياته، لكنه عاش مناضلًا عنيدًا حمل شعلة التنوير بشجاعة حتى وفاته عام 1990، تاركًا فراغًا ثقافيًا كبيرًا لم يستطع أحد من ملئه إلى يومنا هذا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved