القوى الفاعلة في تاريخ العالم العربي ـ الإسلامي
محمد عبدالشفيع عيسى
آخر تحديث:
الجمعة 7 يونيو 2019 - 10:55 م
بتوقيت القاهرة
فى إطار النموذج الأساسى للممارسة السياسية العربية المعاصرة لمرحلة ما بعد الاستقلال السياسى فى الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم بصفة عامة، برزت أربع قوى فاعلة: النخب ذات الأصول العسكرية، والجماعات المنتمية لتيار «الإسلام السياسى»، و«نخب السلطة» Power Elites التى جنحت نحو النهج الأيديولوجى لـ «الليبرالية الجديدة» (الانفتاح الاقتصادى و«الاقتصاد الحر») ــ أو «أهل الحكم»، وأخيرا: الصفوات الثقافية والسياسية ذات الانتماء الليبرالى العام تحت لواء الدعوة إلى الحريات المدنية والسياسية. هذا هو «مربع السلطة» الذى أخذت أضلاعه تتناوب أو تتداول السلطة بين أيديها على اختلاف الحقب الزمنية، دون تغير جوهرى يذكر فى مضمار النموذج التنموى وأنماط التبعية الخارجية إزاء القوى العالمية المهيمنة، وبالتحديد للغرب وأمريكا. ومن حول الأضلاع الأربعة ضلعان آخران يجعلان من المربع ما يشبه «المكعب» سداسيّ الأضلاع، ونقصد هنا اليسار أو التيار الوطني ــ القومى التقدمى، من جهة أولى والجماهير الشعبية، من الجهة الأخرى. وليس لهما وجود فاعل فى الحياة السياسية التى تحتكرها أطراف المربع السابق، رغم اختلافها بل وتنازعها بمنطق التناقض العدائى أو غير العدائى بين الفينة والأخرى.
فكيف حدث ذلك؟ هذا ما سوف نحاول المجادلة من حوله هنا، بدءا بالدور السياسى للنخب العسكرية فى الفضاء التاريخى للعالم العربي ــ الإسلامى. فما الظرف التاريخى الذى برز معه الدور الحاكم للعسكريين فى تاريخنا القريب والبعيد؟
***
فى البداية، لقد حملت الرسالة الإسلامية بذور تغيير جوهرى فى بنية الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية فى شبه الجزيرة العربية وما حولها. وقضت موافقات الزمان أن يتحقق صعود عالم الإسلام منذ مطلع القرن السابع الميلادى وعلى مدى أربعة أو ستة قرون متتابعة، فى الحد الأدنى (هى حقبة الازدهار الحضارى حتى القرن الحادى عشر أو القرن الثالث عشر تقريبا فى تقدير آخر) وعشرة قرون فى الحدّ الأعلى (إن أضفنا حقبة المراوحة بين الازدهار والأفول حتى القرن السادس عشر مشتملة على رحلة الصعود العثماني). وأعقب ذلك دخول العالم العربي ــ الإسلامى فى مرحلة الأفول والركود الحضارى، وخاصة اعتبارا من القرن السابع عشر، مع انفتاح الأبواب أمام النفاذ والنفوذ الاستعمارى الغربى حتى القرن العشرين. وقد ترافق الازدهار الحضارى العربي ــ الإسلامى (وحقبة «المراوحة») مع دخول أوروبا حقبة متطاولة من الركود الحضارى، طوال العصور الوسطى، وفق التحقيب الأوروبى، على مدى ألف سنة تقريبا، من القرن السادس إلى القرن السادس عشر، بوجه عام.
ارتبط الازدهار الحضارى للكيان العربى ــ الإسلامى، بقيادة موجة ذات طابع «عالمى» للتطور الاقتصادى والاجتماعى الذى تصدّره التجار والحرفيون والمزارعون، مع انبثاق رقعة اقتصادية واجتماعية مشتركة قائمة على المبادلات السلعية النقدية، بما يتفق مع «روح العصر» حينئذ، شاملة شطرا واسعا من القارتين الإفريقية والآسيوية. وكانت رحلات الحج والمتاجرة، مثلا، على طرق القوافل فى القارة الإفريقية وسيطا هائلا لقيام حياة اقتصادية مشتركة وفق ما سمحت به الظروف. كما كانت حضارة الأندلس (منذ عبور جبل طارق عام 711 حتى سقوط غرناطة عام 1492) مثالا على التطور النسبى العالى فى مستويات الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية، انطلاقا من الرقى المادى والروحى معا. كما كانت دمشق وبغداد وقرطبة فى العصرين الأموى والعباسى هى عواصم الحضارة البازغة فى العصر الوسيط، أعقبتها القاهرة فى العصر الفاطمى وما تلاه، إلى جانب المدن المغربية الزاهرة من طراز القيروان وفاس. ومثّل عالم العرب والإسلام واسطة العقد فى المبادلات الكوكبية ضمن «التجارة البعيدة» بين أوروبا وآسيا القصيّة، خاصة الهند.
وفى جميع الأحوال كانت القوى الاجتماعية الحاملة للتغير الحضارى، فى حقبة الازدهار، هى ما ذكرنا، يدعمها شلال متدفق من النتاج الفكرى القائم على مزيج من الإبداع الشعرى والفقهى وفى علم الكلام والفلسفة، والرياضيات والكيمياء والفلك وشيء من البصريات والطبابة. أما المحاربون «الفاتحون»، أو العسكريون بلغتنا، فكانوا مجرد قوة اجتماعية تتقدم الصفوف لفتح المجال أمام زحف بناة العالم الحضارى الجديد، أو يقفون فى الخلف للحماية، مع الاعتراف بتجاوزات قليلة أو كثيرة يرصدها المؤرخون.
***
ولكن ما إن خبَت شعلة الازدهار بين القرنين الحادى عشر والثالث عشر، حتى انتقل العالم العربى ــ الإسلامى من الهجوم الإيجابى إلى الدفاع، فبرز هنا دور العسكريين حملة السلاح فى مقارعة التهديدات الخارجية والداخلية للكيانات السياسية. حدث ذلك مرورا من حملات الفرنجة ــ «الصليبيين»، منذ مطلع القرن الحادى عشر، حين وقعت الحملة الأولى بين 1096 و1099، إلى غزوة التتار لعاصمة الخلافة بغداد (1258) وخلالهما وبعدهما موقعة «حطين» ضد الفرنجة بقيادة صلاح الدين الأيوبى (عام 1187) وموقعة «عين جالوت» بقيادة قطز والظاهر بيبرس ضد التتار (1260). ونذكر مواجهة حملات «حرب الاسترداد» الأوروبية ضد الوجود العربى ــ الإسلامى فى الأندلس، وما صاحبها من أدوار حربية كبرى لقادة مغاربة من طراز يوسف بن تاشفين (1083ــ1143) من دولة «المرابطين» فى المغرب، وابن عبدالمؤمن (1163ــ1184) من دولة «الموحدين». ثم ما لبث العالم العربى – الإسلامى أن دخل حقبة من الأفول التاريخى، وتحوّل من مواقع الهجوم الحضارى إلى موقع «الدفاع عن الوجود».
من ثم بدأ يبرز الدور الكبير للقادة العسكريين الكبار أو العظام. وكان لهؤلاء القادة «السياسيين ــ العسكريين» دور فى الحفاظ على الدور العالمى للعالم العربى ــ الإسلامى فى التجارة العالمية إلى حد ممارسة قدر عال من السيادة على الملاحة البحرية ــ التجارية فى المحيط الهندى. ولم يكن الدور الخاص للساسة العسكريين جديدا، فقد أخذ فى البروز منذ بدأ انفراط العقد المحكم للدولة العباسية، وبدء ما يسمى بالعصر العباسى الثانى. فقد تحلقت حول السلطة المركزية فى بغداد سلطات «إقليمية» أو «جهوية» مارست نوعا من الوصاية على المركز، كان بعضها ذا طابع شيعى (البويهيون) وبعضها الآخر ذا طابع سنّى (السلاجقة).. وقامت دول إقليمية، أو جهوية، كبيرة نسبيا بعيدة عن المركز نسبيا وخاصة الدولة الطولونية والأخشيدية فى مصر (والشام) وفى جوارها أو أحضانها سلطات فرعية مثل دولة بنى حمدان (926ــ1003). وأخذ الخرق يتسع على الراتق، حتى ظهور «الدولة الفاطمية» قادمة فى أصولها المشرقية لتؤسس مدينة المهدية فى ولاية «إفريقية» فى 912ــ913، ثم تنتقل إلى مصر وتقوم بتأسيس القاهرة عام 969. وأخذ يشتد الصراع على النفوذ بين الدولة العباسية فى المشرق، والدولة الفاطمية فى المغرب، وتعمّقت ظاهرة تجزّؤ السلطة. ومع ذلك التجزؤ تأتى الخشية من الجوار القريب والبعيد على الممسك بصولجان الحكم، فيكون إضفاء الصبغة الحربية أو العسكرية على عملية الحكم أمرا مفهوما.
***
هكذا إذن عمّ التجزؤ فى العصر العباسى الثانى والفاطمى، ثم الأيوبى والمملوكى فى مصر والمشرق (وما يناظرهما فى المغرب). وتشاء جدليات التاريخ الاجتماعية أن يلعب (التجزؤ المتعسكر)، إذا صح هذا التعبير، دورا دفاعيا ظاهرا، ليس فقط فى مواجهة الأعداء المحليين لأصحاب السلطات المجزّأة، ولكن فى مواجهة الأعداء الخارجيين للعالم العربى ــ الإسلامى بمعناه العريض. وكان هذا واضحا فى مقاومة حملات الفرنجة ــ المسماة بالصليبية ــ على فلسطين ومصر، ومقاومة التحرشات البحرية العسكرية للبرتغاليين والإسبان على شواطئ المغرب العربى بعد سقوط الأندلس فى آخر معاقلها ــ غرناطة. وفى جميع الأحوال تحول العسكريون والمحاربون «المتفرغون» إلى قوة اجتماعية متبلورة إلى حد بعيد، تهيمن على السلطة فى مناطق سيطرتها، أو تشارك فيها، من خلال قيادة نظام إنتاجى قائم على جمع المغانم، من خلال الإتاوات والضريبة، فيما أسماه سمير أمين «نمط الإنتاج الخراجى». وفى مراحل الركود الحضارى العميق ــ خلال العهد المملوكى المتأخر، المماليك البرجية، والعهد العثمانى، شكّل العسكريون من ذلك الطراز قوة اجتماعية قائمة على تعميق الركود و«التخلف الحضارى» بالمقارنة مع أوروبا الآخذة فى التطور صعودا نحو عالم الصناعة، فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولو من خلال استغلال الطبقة العاملة فى بلادها، واستعمار عوالم ما وراء البحار بالقوة المجردة، وعلى قاعدة من تقسم العمل الدولى غير المتكافئ.
مع انضواء مجموع البلدان العربية ــ إلا قليلا ــ تحت لواء الأتراك العثمانيين، فى مطالع القرن السادس عشر، قام «السلطان» ببسط حمايته العسكرية مشفوعةً برداء الشرعية المستمدة من نقل (الخلافة) إلى الأستانة، بعد أن كان «الظاهر بيبرس» قد احتضن الخلافة فى القاهرة بعد دخول التتار إلى بغداد، وبقى «الخليفة ــ الرمز» فيها من 1261 حتى 1517. كان الوجود التركى مرتكزا إلى حامية عسكرية، تتلوها فى مصر والشام قوى عسكرية موالية للمركز العثمانى، وهى حالة المماليك الذين فقدوا السيطرة على الحكم وقبلوا بدور هامشى فى ظلال «السيد الجديد»: الباب العالى العثمانى أو «السلطان».
مع ذبول السلطة العثمانية، فى إطار الصعود الأوروبى والتنافس على تركة «الرجل المريض»، أخذت تبرز سلطات فرعية فى البلدان العربية فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، كما يتضح من حالة مصر والشام: على بك الكبير (1728ــ1773)، وظاهر العمر (1689ــ1775)، الأمير بشير الشهابى فى «جبل لبنان» والذى عاصر محمد على وكان مناصرا له فى مناوأة المركز العثمانى حتى 1840.. وفى جميع الحالات تقريبا، كان العنصر الحربى، أو العسكرى، ظاهرا ظهورا شديدا. وتبرز هنا تجربة محمد على، فقد كانت دولته، أو «إمبراطورتيه» الفرعية، نموذجا واضحا للقائد العسكرى ــ السياسى، الذى يبنى دولة كاملة، بالمعنى الواسع لكلمة «الدولة»، ويسخّر كل إمكانيات المجتمع الإنتاجية وقواه الحية من أجل بناء ما يطمح إليه من مشروع سياسى كبير. استند المشروع السياسى لمحمد على، الذى جوهره عسكرى، إلى تسلسل هرمى للقوة الاقتصادية الاجتماعية، التى تنبع من فم الأمير وبندقيته (انظر إلى ما يسمى «مذبحة القلعة»)، وكان يوزع المصدر الرئيسى لثروة البلاد ــ الأرض الزراعية ــ بنظام الهبات وفق درجة الولاء، ووضعت جباية الضريبة الباهظة من الفلاحين كهدف أسمى للسياسة الاقتصادية.
اقتضى المشروع الإمبراطورى الفرعى لمحمد على إنجاز بناء مادى ومعنوى ضخم، من قاعدة للصناعات النسيجية والغذائية (لزوم ملابس ومأكل ومشرب الجنود) ومن صناعة للسفن الحربية (الترسانة) وجهاز إدارى، ومدارس متعددة المستويات، وبعثات إلى الخارج، ومرافق صحية.. وكان هذا كله فى خدمة ذلك المشروع ذى العصب العسكرى بصفة أساسية. ولما وقع الاحتلال الأجنبى للبلدان العربية (أولها الجزائر عام 1830) ثم تونس (1881) ومصر (1882) كانت المقاومة لدخول القوات الغازية فى عديد الحالات مقاومة عسكرية بصفة أساسية (الأمير عبدالقادر الجزائرى ــ أحمد عرابى...).
ورغم التحول فى مصر من المقاومة المسلحة إلى الأساليب غير المباشرة للتعامل مع المحتل البريطانى بعد إخفاق (الثورة العرابية) ثم إلى (الثورة الشعبية 1919) التى رافقتها أنشطة عسكرية بدرجة ما، فإن حلم تكوين نخبة عسكرية وجيش وطنى بقى راسخا فى الوجدان. وتجلّى ذلك إبّان السعى إلى استكمال الاستقلال السياسى لمصر بعد عقد معاهدة 1936، حين تم فتح الباب لدخول عناصر اجتماعية جديدة إلى سلك الضباط. ومن هذه الثغرة دخلت طلائع شابة من جيل جمال عبدالناصر الذى قاد ثورة 23 يوليو 1952. وللحديث بقية.