النيوليبرالية.. كسبب لمرض الوحدة النفسية
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 7 يونيو 2023 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
منذ بضعة أسابيع كتبت مقالا عن الانتشار المتسارع لوباء مرض الشعور بالوحدة والغربة النفسى ووعدت بالدخول فى تفاصيل مسبباته وآثاره. ولقد اضطرتنى الأحداث الجديدة المتسارعة فى الوطن العربى للكتابة عنها وتأجيل متابعة الموضوع.
نبدأ اليوم بإبراز أحد أهم مسببات ذلك الشعور النفسى، وعلى الأخص انتشاره فى أوساط الشباب والشابات، بما فيهم العرب.
إنه ترسيخ ونشر وتزيين مبادئ ومنهجيات الفلسفة السياسية النيوليبرالية العولمية وتطبيقاتها فى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الأخص. هذه الفلسفة التى تمجد بصور جنونية كل أنواع الحرية: حرية الاختيار، حرية الأسواق، حرية عدم الانصياع لأية توجيهات أو تدخلات حكومية أو نقابية أو حزبية أو حتى عائلية فى حياة الفرد والمجتمع.
وبالتالى، ركزت على تمجيد استقلال الفرد عن أى ارتباط أو مسئولية، إلا مصلحته الشخصية، وعلى تمجيد الحكومة الصغيرة المحدودة المسئوليات، وبالتالى خصخصة كل الخدمات الاجتماعية والحقوقية، وعلى تمجيد التنافس إلى حدود المرض واللا قيم وتدمير الخصم، وعلى تمجيد الخروج على/ وإسقاط كل سلوك مجتمعى، حتى ولو كان على حساب التاريخ والهوية والقيم الدينية الأخلاقية.
وبالطبع لعب الإعلام غير الملتزم، والخادم للمصالح، فى تمجيد أبطال تلك الفلسفة من أمثال، مارجريت تاتشر ورونالد ريجان ورافعى شعار الطريق الثالث من أمثال، بلير وكلينتون ومدرسة شيكاغو الشهيرة وغيرهم من الأبواق ومروجى الصراعات العبثية.
من هنا بدأت مشاعر الوحدة النفسية عند الملايين. فالرأسمالية النيوليبرالية قادت إلى مجموعة صغيرة بالغة الغنى وعيش الترف، بينما وجدت الأغلبية الفقيرة المهمشة نفسها معزولة ومحرومة، وبالتالى فى عزلة عن كل ما يجرى من حولها، بل وموصوفة بأنها فاشلة وغير صالحة لأية منافسة.
ولما كانت الفلسفة النيوليبرالية قد شددت على الفردية الشبه مطلقة فقد الارتباط والتعاطف مع الفقراء، وفقد التعاطف الحكومى معه، وفقد الترابط المجتمعى التاريخى مع الأسرة والجار والحارة والنقابة والحزب وحتى صاحب مصدر الرزق، ودخل عالم الشعور بالوحدة الوجودية التى لا معنى ولا هدف لها، بل ولا حتى أمان وسكينة فيها.
كان كل ذلك تتويجا لما قاله رونالد ريجان فى ثمانينيات القرن الماضى: «إن الكلمات التسع المزعجة فى اللغة الإنجليزية هى القول بأننى من الحكومة وأننى هنا لأساعد من يحتاج».
كانت كلمتا الحكومة ومساعدة الآخرين موبوءتين فى قاموس النيوليبرالية.
وكان تتويجا لما قالته مارجريت تاتشر لشعبها ما معناه: لا يوجد شىء اسمه نقابة أو عائلة أو مجتمع، بل يوجد فقط فرد مستقل مسئول عن نفسه، ولا توجد وسيلة لتغيير القلوب والنفوس إلا الاقتصاد.
فجأة وجد العالم نفسه فى داخل دوامة النيوليبرالية على أوسع نطاق عندما تبنى السياسيون المسئولون شعارات مؤيدة من مثل التفتيش عن المصلحة، أو عقلية الكلب الذى يأكل الكلب، أو أن الطمع صفة حميدة، أو أن الاستهلاك الفردى النهم يخدم المجتمع والاقتصاد، أو أن كلمات التضامن والتعاطف مع الآخرين هى كلمات من خارج العصر الذى نعيش. وبدأت البرلمانات والحكومات تبشر بمجىء الإنسان الجديد: إنسان الاقتصاد (HOMOECONOMICUS) بدلا من الإنسان الكائن العاقل.
بتساقط أو ضعف العلاقات الاجتماعية، علاقة بعد علاقة، وصعود الفردية المادية الاستهلاكية العبثية، كان طبيعيا أن يشعر إنسان العصر، وعلى الأخص شاباته وشبابه، المتطلعين إلى حياة رفقة إنسانية بشتى أشكالها الأسرية والاجتماعية والثقافية والروحية، أن يشعر بالوحدة الوجودية، بل وأن يتساءل إن كانت هذه الحياة تستحق أن تصان وأن يشقى الإنسان من أجلها.
لذا، لن تقف مشاعر الوحدة عند تلك الحدود، إذ شيئا فشيئا ستقود إلى أمراض نفسية وعقلية وجسدية بالغة الخطورة، وسنحاول الإشارة إلى أخطرها فى كتابات مستقبلية.
لكن دعنا نذكر أنفسنا بأن ليس المهم هو الوصف والتشخيص وحتى العلاجات للكثير من المحن التى يواجهها إنسان العصر. إنما المهم هو الإشارة إلى أسبابها الحضارية الخاطئة والنضال لمواجهة تلك الأسباب ودحر الذين من ورائها.
ستكون كارثة لو أننا أضعنا الوقت فى التشخيص وأهملنا الأسباب.