عصفورة الشجن
صحافة عربية
آخر تحديث:
السبت 7 يونيو 2025 - 5:20 م
بتوقيت القاهرة
ذات مشوار صباحى باكر، أقود سيارتى وأستمع إلى الفقرة الغنائية الصباحية لفيروز، فأسمعها تؤدى: «واغتراب بى وبى فرحٌ/ كارتحال البحر بالسفن/ أنا لا أرضٌ ولا سكنٌ/ أنا عيناك هما سكنى». ناجيتُ نفسى: يا لهذا الجمع البليغ بين الاغتراب والفرح. المقطع أعلاه أتى، كما تعلمون، فى أغنية «عصفورة الشجن»، وأثارت تلك اللحظة الفيروزية الصباحية فى نفسى الفضول لتقصى اسم كاتب هذه الكلمات الجميلة.
فى البيت شرعتُ فى البحث، فوجدت أن الكلمات، خاصة على موقع «يوتيوب»، تنسب إلى الأخوين رحبانى، لكن شكًا كبيرًا راودنى فى أن يكون منصور أو عاصى هما من كتباها. «ليست لغتهما»، قلتُ لنفسى. لم يخب ظنى، فببحثٍ إضافى وجدتُ أنها تنسب إلى شاعر من مدينة النبطية فى جنوب لبنان اسمه على بدر الدين، نشأ فى عائلة شديدة التدين، بل إنه نفسه أصبح، لاحقًا، رجل دين، وكتب كلمات الأغنية عندما كان شاباً دون العشرين من عمره، ما ينمّ عن موهبة شعرية لافتة.
لم يعلن الرجل للملأ أبدًا أنه من كتب القصيدة، تفاديًا لأى إحراج قد يسببه لعائلته ولمكانته كرجل دين، فلم يشأ أن يقال عنه إنه كتب شعرًا فى الغزل، وبقيت القصيدة وقصائد أخرى له مجهولة القائل، حتى أسرّ أحدهم لعاصى الرحبانى بأمرها، وبعد أن قرأ بعضها، خاصة قصيدة «عصفورة الشجن»، قصده طالبًا موافقته على تلحينها لتغنيها فيروز. وافق الشاعر على ذلك بعد وعدٍ قطعه عاصى له بعدم ذكر اسمه.
الشجن، لغةّ: «الهمّ» و«الحزن»، و«حالة شعورية متنامية فى النفس، تُحدث شيئًا من تجاذبات وتداعيات للمشاعر»، ولكن المفردة وردت فى هذه القصيدة المغناة جامعة بين الحزن والحنين إلى ما كان جميلاً، تعبيرًا عن اغتراب وجودى بالمعنى الفلسفى، وحسب الموسيقيين فإن العود والناى هما أبرز آلتين موسيقيتين تعبران عن الشجن، وأنّ من أشهر روّاد العزف شجنًا: فريد الأطرش، رياض السنباطى، سيد مكاوى، محمد عبد الوهاب، طلال مداح وسواهم. ومن أبلغ ما قيل شعرًا عن الشجن قول بشار بن برد: «لا تعرف النوم من شوقٍ إلى شجن/ كأنما لا ترى الناس أشجانا»، وقول الباخرزى: «أروحُ وفى الحَلْقِ منِّى شَجىً/ وأغدو وفى القلبِ منى شجن».
بقى القول إن «عصفورة الشجن» لم تكن الوحيدة من شعر على بدر الدين التى لحنها الأخوان رحبانى، مثلها لحنا أيضًا قصيدته القائل مطلعها: «لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب/ ورحت أحضنها بالخافق التعب».
كاتب هذا الشعر الرقيق مات موتة فاجعة عن ثلاثين عامًا فقط، فى ذروة الحرب الأهلية بلبنان، حيث وجد جثة مزّقها الرصاص فى أحد أودية الجنوب عام 1980، بعد اختطافه ذات صباح وهو فى طريقه إلى المسجد.
حسن مدن
جريدة الخليج الإماراتية