جلال عارف واحتفاء بنقابى استثنائى
يحيى قلاش
آخر تحديث:
الأحد 7 يوليه 2024 - 6:05 م
بتوقيت القاهرة
تعلَّم منه جيلنا أن الالتحاق بمهنة الصحافة يعنى بالضرورة الدفاع عن مقتضيات هذه المهنة ورفض أى اعتداء على حريتها، وأن الصحفى الذى لا يعرف قيمة كيانه النقابى غير مكتمل النمو.
وجاء قرار دخوله انتخابات عضوية مجلس النقابة أوائل الثمانينيات من القرن الماضى مهمًا وفى ظروف بالغة الصعوبة، وبعد محاولات عدة قام بها الرئيس السادات للسيطرة على النقابة، ومنها قراره بنقل عدد من الصحفيين فى سبتمبر عام ١٩٨١ إلى وظائف حكومية وكان من بينهم جلال عارف، الذى رفض الامتثال للقرار حتى رحل السادات فعاد إلى مؤسسته.
كان وجوده وحده بعضوية مجلس نقابة الصحفيين كفيلًا ببعث الاطمئنان لدى أعضاء الجمعية العمومية التى ظلت على مدى ثلاث دورات متتالية تمنحه ثقتها وحصوله على أعلى الأصوات، لذلك كانت وجهته الدائمة هى هذا الجمهور الذى كان يصدقه ويستمد منه قوته وتأثيره، وعندما توّج مشواره باختياره نقيبًا للصحفيين فى ٢٠٠٣ لدورتين متتاليتين كانت سنواته الأربع فارقة واستثنائية، بعد أن طالت مرحلة «نقيب الجسور» الذى ظلت تختاره الدولة وتدعمه منذ عام ١٩٨١، بعد التخلص من النقيب كامل زهيرى الذى سبّب صداعًا للسادات.
جاء جلال عارف، وهو الذى لا يعرف غير الجسور الواصلة بينه وبين الجمعية العمومية على مدى عدة عقود مشاركا ومتقدما فى كل المعارك النقابية، ومدافعا بقلمه عن المهنة وعن حقوق زملائه، فكان هو النقيب الذى يستمد قوته من جذور ممتدة وضاربة فاكتسب الهيبة والاحترام وسعى للقائه رئيس الجمهورية، الذى صرّح لأحد وزرائه عقب أول مقابلة معه بأنه الوحيد فى مكانه الذى لم يطلب لنفسه شيئا.. نعم قالها جلال عارف بوضوح لرئيس الدولة الذى سأله بعد أن استعرض أمامه مطالبه النقابية «وأنت عايز إيه لنفسك يا جلال؟» فكان رده «كل ما أطلبه لزملائى وللنقابة هو لى».
نعم أنا شاهد أن هذا الرجل الذى تولى أمر النقابة فى توقيت صعب استطاع أن ينقلها إلى مكانة أخرى، فهو من وحّد الجمعية العمومية فى اجتماع استثنائى حول مطلب لائحة أجور جديدة، وإلغاء عقوبة الحبس فى قضايا النشر، وتقدم عدد كبير من النقابيين وأعضاء الجمعية العمومية فى مسيرة من النقابة إلى البرلمان، وهو الذى قاد مجلس النقابة للتصدى لحبيب العادلى وزير الداخلية عندما تجاوز حدوده، وللسفير الأمريكى عندما أدلى بتصريح اعتبر تدخلا فى شئون الصحافة المصرية، والذى رفض التمويل الأجنبى تحت شعار تدريب الصحفيين، وهو الذى زاره كل سفراء الاتحاد الأوروبى بالقاهرة ليعرفوا عن قرب دلالة نجاح نقيب من خارج الكتالوج الحكومى فى هذا التوقيت، وهو من سعى لتنمية موارد النقابة والحصول على حقوقها، وتم حذف كلمة «السحب على المكشوف» من البنوك للصرف على احتياجات النقابة من قاموس النقابة التى حققت خلال فترة وجوده فائضا فى ميزانيتها للمرة الأولى، وكان أول نقيب يخصص من ميزانية النقابة مبلغًا يُقدَّم من قرض للزملاء المستحقين من دون فوائد، وإنشاء صندوق للطوارئ، وخلال فترته أيضا انتهى من إنشاء مدينة الصحفيين بالتجمع الأول، وأول من خصصت له أرض بمدينة أكتوبر لبناء مدينة أخرى للصحفيين، كما وفّر مجلسه الكثير من الخدمات التى كان يرى أن يتم تقديمها للصحفيين بطريقة مؤسسية لائقة، وهو كذلك من قدم أول لائحة قيد تمنع الفوضى وتحترم القانون والقواعد، وهو الذى كان يلفت نظرنا دائمًا عند الاعتداء على حقوق الصحفيين فى علاقات العمل إلى أهمية المادة ٤٨ من قانون النقابة ليترسخ لدينا أهميتها وأنه تكمن فيها قوة النقابة ككيان مفاوض دفاعا عن حقوق الزملاء.
نعم جلال عارف نقابى من طراز خاص، وسيظل يحتفظ بمكانة نقابية كبيرة، فقد قدّم لنا بسلوكه دروسا ملهمة دون أن يعيش دور المعلم، وكان ضميره دليله فى كل تصرف بهدوء ومن دون ادعاء، وكانت كرامته وكبرياؤه عنوانا ثابتا احتراما لما يمثله قبل أن يكون احتراما للنفس، ويكفى أنه ظل لمدة تزيد على الثلاث سنوات ونصف السنة منذ عام ٢٠١٣ رئيسًا للمجلس الأعلى للصحافة رافضا أن يتقاضى مليما واحدا، ويكفى أن نعرف أنه كان يرفض الاستمرار فى الكتابة بأى مطبوعة إذا شك أن قلمه لن يكون حرا.
غدا الثلاثاء الموافق التاسع من يوليو فى النقابة سيكون يوما لتكريم هذا الرجل والاحتفاء به، بعد اختياره لنيل الجائزة التقديرية لهذا العام، ومع تكريمه نكرِّم فى الوقت ذاته كثيرا من المعانى المهمة فى العطاء والتفانى والإخلاص.. دمت لنا يا نقيب أو كما أحب أن أسميك يا «ضمير النقباء».