صبيان وبنات
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 7 أغسطس 2018 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
هناك، فى أقصى جنوب سيناء وبعيدا عن أقرب مدينة، رأيت ما لم أكن رأيت منذ مدة طويلة، رأيت السماء. رأيتها بالنهار بلون زرقة لم أعهدها إلا فى أفلام والت ديزنى والجمعية الجغرافية. أظن أن أحدا لن يغضب إذا وصفتها بالزرقة النظيفة. لا. لا أبالغ. فالزرقة التى نراها اليوم فى السماء المطلة على حى المهندسين وهى التى لا تختلف كثيرا عن الزرقة الزاحفة على بقية أحياء القاهرة، وربما كل مصر، زرقة ملطخة بلون باهت من نوع الألوان الخبيثة التى زحفت على المدينة فى السنوات الأخيرة. زحفت لتزيح الأصل وتحل مكانه بديلا مشوها. هذه الألوان المريضة أصابت الملصقات الإعلانية ولافتات وإشارات المرور وواجهات المنازل ودور الحكم. سمعت يا أستاذة من صديقتى أنك كنت دائما تحكين عن نظافة إشارات المرور الزرقاء أيام كان نادى السيارات الملكى مسئولا عن تلك اللوحات. كانت تزين ميادين القاهرة وضواحيها وترشد بجلال واحترام وبنظافة أيضا قائدى السيارات على الطرق الزراعية والصحراوية.
***
نعم يا أستاذة. حكيت له بل ولكل أفراد مجموعتنا من البنات والصبيان وصفك للياليكم. لم أنس يوما وصفك المفصل والعميق لهضبة الأهرامات فى ليالى الصيف وعلى الأخص فى ليلتين تتكرران كل شهر، ليلة منهما يحتل فيها القمر كبد السماء فيحيلها نورا ساطعا. تستحى النجوم أن تنافسه بلألآتها الخجولة الطبع فتنسحب حبا أو تبقى ساكنة فى مكانها ولكن بعد أن تطفئ مشاعلها. فى الليلة الأخرى يغيب القمر فتمسى السماء لوحة من قماش منسوجة بخيوط من ذهب وفضة وزمرد وعقيق وياقوت وتوباز وغيرها من بدائع الخلق ودلائل الذوق الرفيع، خيوط تربط بين درر مختلفة الأحجام والألوان. لم يفتها أن تترك مساحة خالية ليسرح فيها خيالنا نحن العامة أو ليتكثف فوقها فضول الخاصة من علماء الفلك. نتحدث معك اليوم أنا وصديقى عن ليلة قضيناها فى أقصى جنوب سيناء أظن أنها كانت كتلك الليلة فى هضبة الأهرام التى كنت تحكين عنها مغردة أو شاعرة.
أستاذتنا الجليلة، أدعوك لتسمعى انطباع رفيق رحلتى وليلتنا الفائتة، ليلة غاب فيها القمر. سكت رفيقى لساعة أو ربما أطول قضاها مستلقيا على ظهره. لم يغف كما ظننت أول الأمر ولم يعلق فى نهايته. أجلنا تبادل الرأى وأسباب الانبهار إلى يوم نجتمع فيه بعد عودتنا من سيناء. وها نحن اجتمعنا ومن حسن حظنا فى حضرة أستاذتنا التى هى أيضا صديقتنا. هيا تكلم يا رفيقى.
***
أستاذة، صدقت الزميلة والصديقة الأقرب دائما إلى قلبى وأحيانا كانت الأقرب إلى عقلى. لقد رأينا معا فى هذه الرحلة «سماء» لم نر مثلها سماء من قبل. اعذرنى إن كنت حسدتك أنت وبنات وأبناء جيلك الذين كانوا حسب روايتك لصديقتى على موعد مرتين كل شهر للاستمتاع الحر بمثل هذه السماء فضلا عن استمتاعكم بسماء كل نهار، سماء بزرقة نقية مبهجة للروح ومهدئة للنفس ومريحة لأعصابكم. نعم هذه الزرقة اختفت من سماوات جميع مدننا. دعونا نكون صرحاء فنصرخ بالحقيقة المرة. نحن أبناء جيل يعيش فى بلد اختفت سماواتها، نعيش فى بلد لا يرى أهله سماء حتى صاروا لا يدركون معانى السماء.. سيدتى، أظن أنك من جيل يعترف بوجود السماء فى حالة واحدة: أن تكون زرقاء بالنهار ومضيئة بالليل بضوء القمر أو لألأة النجوم. سماواتنا المزعومة لم تعد توفر هذا الشرط. قبلتم على أنفسكم أن تسلموا لنا بلدا بدون سماوات. نحن يا أستاذة أبناء جيل جاء إلى هذه المدينة بعد أن خلع أهلها أردية الفلسفة واصطنعوا لأنفسهم إيمانا وعقائد متمسحة بسماوات غير سمائهم. نشأنا فى رحاب سماء رمادية متربة لا تسمع صلواتنا وتأوهاتنا وإن سمعت فهى لا تستجيب. لا تؤاخذونا إن تمردنا أو هاجرنا. نحن الشباب نريد سماوات زرقتها نظيفة كزرقة سماواتكم، نريدها سماوات تتفهم تطلعاتنا وتقدر أحلامنا. كان يكفى أن تنظروا إلى أعلى فالسماء كانت هناك زرقاء صافية وجاهزة لتستجيب.
لا تسيئا فهم ما أقول. سماواتنا إن وجدت فهى تعنى لكل منا أشياء مختلفة. هناك فى عراء الفراغ حيث الفضاء لم يتلوث بعد، رأيت فيه، عندما استلقينا صديقتى وأنا على الرمل فى جنوب سيناء، ما لم تَرَيْه يا صديقتى.. راقبتك من طرف عين ولكن بعقل واع وقلب متفهم. رأيت فى عينيك نظرة «المستكفى».. أعرف أنك لو كنت استدرت نحوى ونظرت مليا إلى وجهى لرأيت بالتأكيد نظرة مختلفة إن عكست أشياء فلن يكون بينها الرضا والشبع والاكتفاء.
***
أنت محق أيها الصديق رفيق سفرى. غافلتك فعلا أكثر من مرة. استرقت الانتباه إلى لغة جسدك وبخاصة حركة عينيك وأصابع يديك ورجفات قدميك. عرفت منها أنك تتعامل مع سماء غير سمائى. سمائى تبدأ وتنتهى عند هذه اللوحة السماوية المتقنة الصنع والرائعة الذوق والجمال. سماؤك، وصححنى إن أخطأت واعذرنى إن تجاوزت، كانت وراء سمائى أو ربما فوق سمائى. لمحتك تحدق وكأنك تدقق فى تفاصيلها أو ــ ولا شك تعذرنى ــ تحاول هتك أسرارها. تألمت لك ولها. تمنيت لو أن فى صدرك متسعا لبعض ما فى صدرى من عواطف هاجت حتى فارت وراحت تملأ كل فراغ فى جوارحى. شعرت بها تتسلل حتى وصلت إلى أطراف أصابعى وبعض خصلات شعرى، ولا أخفيكما أنى شعرت بقلبى ينتفض فمددت إليه يدا تطمئنه. نعم عشت مع سماء تلك الليلة، أقصد سمائى، لحظات من حياة ثانية. كانت انتفاضة قلبى وامتلاء جوارحى وتنميل أصابعى وتمايل شعرى براهين قوية على أن تلك السماء بألوانها الرائعة وسكونها الممتع وأذيال نجومها الهاوية تدعونا لنعيش حياة لا يغيب عنها الحب. لا فراغ هناك، بل عاطفة متقدة وحب عظيم. لا يمكن، بل يستحيل، أن تكون هذه القماشة الجميلة ستارا يختفى وراءه شر أو غضب.
***
أفهم ما تقولين. سمائى نعم مختلفة، أو بكلمة أدق، رأيتها مختلفة. هل ذكورتى هى التى دفعتنى للاختلاف معك؟ هل هى التى راحت تسحبنى إلى مكان آخر أمارسها فيه منعزلا عن أنثويتك الحالمة دائما؟. وجدت نفسى أعيش لحظة إطلاق أول صاروخ ينطلق من هذا الكوكب يحمل أول رسالة من سكان فى الأرض إلى فراغ يسكن فضاء وراء السماء. أبناء جيلكم يا أستاذتنا صنعوا هذه المعجزة وفرضوا علينا أن نختار إما أن نكتفى بهذه السماء سقفا ننمى فيه مباهجنا وسعادتنا أم نسعى لنعرف ما وراءها وفوقها. نعم، قضيت نحو الساعة أحلم. حلمت أننى تفوقت على أقران فى معهد علمى، ابتكرت صاروخا، حلمت أننى بين صبيان وبنات نعيش داخل أسطوانة تلف فضاء تخفيه هذه السماء التى أراها أمامى وها نحن نهبط على الأرض لتستقبلنا المواكب يتقدمها حملة المشاعل والناس تتدافع لتقبيل وجنات الأبطال العائدين من رحلة البحث عن سماوات أعلى. أما أنت يا صديقتى فأرجوك لا تسخرى منى ولا أظن أنى أحرجك أمام أستاذتك، فقد رأيتك بين المستقبلين وأنت تلوحين بإكليل غار أتيت به خصيصا من أجلى. دعينا من هذا الآن.
هل خطر على بالكما، كما خطر على بال كنيث وايزبرود وهيثر يونج، أننا ربما كنا على وشك أن نفقد السماء.
***
أستاذتنا، هل أشبعنا بعض فضولك. نعم بعض دخائل الصبيان تختلف عن دخائل البنات.؟ ترغبين فى المزيد! لك ما تريدين.